خليل علي حيدر

الأحزاب السياسية الإسلامية الحالية لا ترسي أساساً طيباً لتطويرها باتجاه الديمقراطية والحداثة، والفهم السائد بيننا للدين ونصوصه المقدسة، يلغي العقل المختلف والمغاير في فهم الدين والمذهب

لماذا لم يظهر في العالم العربي والإسلامي، حزب ذو مرجعية دينية ديمقراطية؟ حزب متدين، متمسك بالمواطنة متقبل للآخر، بعيد عن السرية والعنف والمذهبية؟ لقد نما الاتجاه «المسيحي الديمقراطي» بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية كما ذكرنا، وتغذى في نموه على الظروف الاجتماعية والسياسية، التي رافقت ظهور الحياة الحديثة، وكردٍ على ما رافق الحربين من بؤس ومن دمار، وبسبب تنامي التحدي الاشتراكي والشيوعي وظروف الحرب الباردة.

ومن اللافت للنظر في مسيرة «المسيحية الديمقراطية» كما ذكرنا، ظهورها في الدول الكاثوليكية لا البروتستانتية أو الأرثوذكسية. ومن التيارات السياسية المماثلة لتيار «المسيحية الديمقراطية» تيار الاشتراكية المسيحية، التي ظهرت كمجموعة أحزاب ومفكرين في أوروبا وأميركا، ضد الفردية والرأسمالية الصاعدة، خلال القرن التاسع عشر والعشرين.

وإذا تأملنا الواقع العربي والإسلامي في أكثر من دولة ومجتمع، وجدنا الفقر والهجرة والتكدس في المدن، والتخلف وخيبة الأمل في الأرياف، ومظاهر الحياة الحديثة في المدن، التي قد تستفز المتدينين والمحافظين، وعرفت هذه المجتمعات العربية، والإسلامية كذلك، الصراع الأيديولوجي بين الدين والأفكار الاشتراكية والشيوعية والعلمانية، كما شملت ظروف الحرب الباردة، التي كانت من دوافع ظهور الأحزاب الديمقراطية المسيحية، بلدان العالمين العربي والإسلامي، وإن تولد عن هذه الدوافع في بلداننا دعم الأحزاب الإسلامية كـ«الإخوان» أو الهيئات الدينية، أو غيرها، في إندونيسيا وتركيا وإيران والعالم العربي، ولم تحاول الحكومات أو الشخصيات المثقفة أو القوى السياسية بناء أحزاب «إسلامية ديمقراطية»، مهما كانت درجة تقبل كل من الإسلام والديمقراطية للآخر!

هل الفهم السائد في ثقافتنا وعموم حياتنا يدفع باتجاه مزج الدين والديمقراطية؟

مناهجنا الدراسية في معظم العالم العربي تعدُّ الطالب أكثر ما تعده للنجاح الفردي في إطار مؤسسات الدولة، وحتى في هذا المنحى لا تدرِّبه على الديمقراطية وحرية الفكر والمشاركة واحترام الاختلاف، بل إن بعض أساتذة الجامعات لا يرحبون بالطالب المعارض أو المجادل، وربما المشاكس.. كما يسمونه فيما بينهم!

من جانب آخر، يلغي الفهم السائد بيننا للدين ونصوصه المقدسة، العقل المختلف والمغاير في فهم الدين والمذهب، وقد يكفره ويخرجه من الملة. ولا ترسي الأحزاب السياسية الإسلامية الحالية أساساً طيباً أو دروباً لتطويرها باتجاه الديمقراطية والشفافية والحداثة. فتجد معظم ثقافة وكتب «الإخوان» وحزب «التحرير» والجماعات السلفية ومؤلفات قادة الحركات الشيعية لا تزال متداولة وموضع تقدير وإعجاب.. رغم أن الزمن وتجارب الإسلاميين قد تجاوزا محتوياتها.

ولا يقترب أحد في أي مجتمع مسلم من القيم السائدة، وبخاصة في الأرياف والبوادي والمناطق الشعبية والعشوائيات، وربما غيرهم من «المحسوبين».. على الطبقة المتوسطة!

وكيف ستقوم ديمقراطية اجتماعية، أو تساهم المرأة وهي نصف المجتمع، أو يتجاوب الفقراء والبسطاء مع أي حركة تغيير تحاول أن تطور الوعي الديني ومضامين خطب الجمعة ومحتويات الأشرطة والمواقع والقنوات «الإسلامية»، في ظل وجود الأمية والقيم المحافظة والقبلية التي تقف حاجزاً بين جمهور العالم الإسلامي وقيم الحداثة؟ وهذه أقل التحديات!

ومما ساعد المسيحيين في تطوير هذا التيار إيمانهم بفصل ما لله عما لقصير، وفصل الحياة السياسية عن الحياة الدينية، بينما استغل «الإسلام السياسي» وأحزابه كل تراث الإسلام خلال 14 قرناً، ليفرض هذا التيار على المسلمين سلطانه، ويغري من هو خارج هذه الجماعات بالالتحاق به، مستعيناً بالخدع الدينية والسياسية.

ومما تجدر ملاحظته كذلك قبول «الإخوان» في أماكن كثيرة، وبخاصة في سوريا، بفكرة «الاشتراكية الإسلامية»، وعدم تبنيهم لتيار «الديمقراطية الإسلامية» في تلك المرحلة، وإن تحمسوا لها لاحقاً!

وكان د. مصطفى السباعي، مؤسس الجماعة في سوريا ورائدها، من أبرز المتحمسين للمنحى الاشتراكي، فنشر في دمشق عام 1959 كتاب «اشتراكية الإسلام»، في أوج التيار العروبي الناصري والاشتراكية العربية التي دعا لها الرئيس عبدالناصر. وقال د. السباعي في مقدمة كتابه مستهجناً: «ومن الناس من ينكر أن تكون في الإسلام أية نزعة اشتراكية»!.. يقول بعضهم هذا تشويه لسمعة الإسلام وصد عنه، ويقوله بعضهم ظناً منهم أن الإسلام دين رأسمالي، ويقول آخرون خدمة للغربيين ومن يدور في فلكهم من الأغنياء وذوي الثروات والملكيات الكبيرة، وهؤلاء هم المتاجرون بالدين».

وقال د. السباعي ما هو أقوى وأوضح في الدفاع عن رؤيته: «لقد اخترت القول باشتراكية الإسلام، لأني لا أعتقد أن الاشتراكية «موضة» ستزول، بل هي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور».

ومضى د. السباعي يدافع عن رأيه في مختلف الأوساط، وسط معارضة التقليديين وسائر «الإخوان» في سوريا ومصر، وكتب يقول: «قال لي مرة نائب في المجلس النيابي السوري الأسبق عام 1950: «إني لأعجب كيف تقولون بالاشتراكية الإسلامية، لأن الاشتراكية هي التأميم، والإسلام لا يقول بالتأميم ولا يعرف شيئاً اسمه «التأميم» لأن المقصود بهذا اللفظ هو استيلاء الدولة على المصانع، ولم تكن الصناعة ولا المصانع موجودة في عصر الإسلام! فأجبته إني لأعجب من جهلك بالإسلام وبالاشتراكية على السواء! فلا أنت تعرف حقيقة الاشتراكية ولا أنت تعرف شيئاً عن الإسلام، فالدخول معك في نقاش حول هذا الموضوع لا يفيد، على أنه يلزمك بناء على رأسك هذا أن تنكر القول بالاشتراكية المسيحية من باب أولى، مع أن الأحزاب الاشتراكية المسيحية موجودة في أكثر بلاد الغرب، ولا أظن أنك تعي جهلها بالمسيحية أو الاشتراكية! فسكت ولم يحر جواباً».

لقد عاشت الجماعات الإسلامية العربية تجارب عاصفة منذ بداية ما يسمى بـ«الربيع العربي» عام 2011، فهل كانت هذه نهاية المرحلة السابقة من أفكار هذه الجماعات؟

خليل علي حيدر

*كاتب ومفكر- الكويت