سمير عطا الله

 عندما تتأمل صور الموت اليومي الخارجة من سوريا والعراق منذ سنوات، ترى وراء الناس والقتلى والمشردين طبيعة خضراء. وتزداد هذه الطبيعة خضرة كلما لاحقت صور النازحين في اتجاه تركيا ومخيماتها. وكان علماء الجغرافيا يسمون هذه المنطقة الشاسعة من ديار العرب «الهلال الخصيب».

ومنذ سنوات غيَّرت اسمها إلى «الهلال الخضيب»؛ فلم يعد مهماً منظر الأشجار والحقول والسواقي أمام الأسر والعائلات النازفة دماً وكرامة على طرق الهرب إلى أي مكان ليس فيه مفخخات وطائرات وشوارع هي جسور المواطن إلى موته.
هناك ثلاثة فرقاء في هذا المشهد المتكرر على الشاشات العالمية: الجرحى والموتى والركام، وهم لا يعنون شيئاً لأحد، ولا يوحون لك إلا بسؤال واحد: أين وكيف يعثرون على من يعالجهم أو يدفنهم؟ الأكل ليس ضرورياً. وهناك الفريق الذي يدبج البيانات الدولية حول الأسى والأسف. وفي المقابل هناك الفريق الممانع الذي يصور كل هذا الموت انتصارات وبطولات وابتهاجاً شرعياً.
وفي الخلفية دائماً لا يغيب؛ الهلال الخصيب، بأنهاره وينابيعه وحقوله وسهوله. سنوات وأرضه لا ترتوي من مياه ما بين الدمّين، وما بين موْتين... وما بين ألف دمار. وكيف يمكن العثور على المستغيثين تحت هذا الركام، أو على العظام، أو على الثياب الممزقة، أو على الأشلاء المتناثرة مع الغبار؟

لا. ليست هذه مرثية. يجب أن تتذكر دوماً أن الرثاء في الأدب العربي صرف فقط للنساء: الخنساء تبكي شقيقها صخراً وكفى. الرجال خارجاً يقتلون في الصحاري والبراري وفي الغياض والغيطان، ويحيلون عملية إحصاء الحصائل على مجلس الأمن وفروعه وبنوده وفرقة فزاعي الطيور الخاصة بالقبعات الزرقاء.
في السابق كانت «الأسرة الدولية»، وهو اسم التحبب لهذا العالم، تجيد مظاهر المآتم وتطبع نسخ بيانات التعزية على ورق صقيل. لقد سئمت ذلك الآن. ملّت التكرار. وصار عليها أن تلطف الكلام ولو في الهواء، خوف أن تضرب على يدها بالفيتو. وقد تعلمت مع الوقت، ألا تحاول إرضاء الضحية، لأنه لا جدوى من ذلك في أي حال؛ لقد اختصر «هاملت» الوضع البشري منذ أيامه: كلمات كلمات كلمات. وعادت المطربة المصرية داليدا فغنتها بصوتها الشجي بالإيطالية: كلمات كلمات كلمات.
ونحن ماذا نملك أيضا؟ لا. ليس الكلمات.لاحظ الشعار الذهبي المرفوع في أنحاء العالم العربي: «الصمت زين»... ولا ضرورة للباقي.