فوزى فهمى 

الفوضويون يسعون إلى نشر التيه، والحيرة، والضياع، وخلخلة كل ثقة، والترويج لكل ما من شأنه أن يحدث خللا فى تعطيل مسار المعرفة، والإدراك، والوعي؛ انفكاكا من تأثير فعاليات دلالات مؤسسات الدولة التنظيمية المرجعية فى مجال الرؤية العامة للمجتمع، فهم يحجبون المعرفة عن غيرهم، حيث يروجون مقولة إن الفقر ينهى نهم العقل إلى المعرفة، وتلك مقولة ضالة يعمد إلى ترويجها من يمارسون التضليل الجماعي، ويصطنعون معايير لضبط حركة الإنسان فى أحاسيسه وميوله وتوجهاته؛ بل يدفعونه إلى الإحساس باللاوجود لذاته وقيمته، نتيجة الحواجز والعوائق التى يضعونها بين العقل والواقع، واختراعهم وسائل معرفية مضادة للمعرفة، فيتبدى الشر ماثلا فى تلك المقولة، حيث يستهدفون حجب الفهم عن الناس، وأيضا حق الإجهاز على الفهم تزويرا، وذلك بإعلان بطلان الوجود الحق للفقراء، لاستعصاء اقتدارهم على استكشاف المعرفة، عندئذ يتعطل معنى حرية الإنسان المحصورة فى حق الفهم وحق المعرفة، إنهم فئة ضالة من المجتمع تمارس التعمية على المجتمع بألاعيب الوهم، لإبطال فعالية المعرفة مجتمعيا، وتجريد المجتمع وأفراده من سلاح اقتدارهم، بتعطيل قدراتهم وإمكاناتهم التى لا بد لها من أن تعزز المصلحة العامة لمجتمعهم. ولأن الفوضويين يدركون أن الوقائع أشد عنادا من القناعات، وأيضا لأن مفعول الوقائع يزيل الشغف الذى ينتج عنه الاهتمام؛ لذا يطرحون ذلك الصدع بين المعرفة والفقر، ليفسح لهم الطريق كى يستولدوا من أخيلتهم الوقائع الوهمية المصنوعة ذات الاستهدافات المحددة والمضادة للحقائق، التى يجرى تسكينها تلقينا للناس بوصفها حقائق غير معلنة لتشكل توترا اجتماعيا، فتتبدى هذه الأوهام المصطنعة دلالات تفتح آفاقا أمام خيبة أمل الناس، وعدم الأمان، وإنكار الحقائق بتزييفها، استهدافا لاستقطاب الناس بصور استهامية لوقائع مصنوعة تعرض على أنها الواقع الراهن بتشويهه وتخطيفه، إلغاء للوجود الحقيقي، ليعيش الناس أسرى مشهديات وهمية تحجب عنهم الحقائق، بغية الاستقطاب المجتمعى نحو الفوضى الخلاقة، حيث يقصى النظام الحاكم إلى ما وراء ساحات التلقي، والإدراك العام، ليحل مكانه البديل المرغوب، من خلال سياق صراع فى ساحة مفتوحة لثنائية متضادة هى «الفوضى الخلاقة».

ولأن الأمركة تمارس لعبة خداع الدلالة، بأن تطلق تسمية على غير دلالتها الواقعية؛ لذلك طرحت لعالم ما بعد الحرب الباردة، مصطلح «الفوضى الخلاقة»، الذى صاغه «مايكل ليدين» فى سياق مشروعه عام 2003 «التغيير الكامل فى الشرق الأوسط»، حيث تكتسح الفوضى واقعه لإجراء إصلاحات شاملة لدول المنطقة، بالتدمير ثم إعادة البناء، مبررا ذلك بقوله: «التدمير الخلاق هو اسمنا الثانى فى الداخل والخارج، لقد كره أعداؤنا دائما هذه الطاقة المتدفقة والخلاقة التى طالما هددت تقاليدهم، وأشعرتهم بالخجل لعدم قدرتهم على التقدم، علينا تدميرهم كى نسير قدما بمهمتنا التاريخيةب وقد انتقد هذا المجتمع الفوضوي، المفكر المرموق «هيدلى بول» (1932 - 1985)، فى كتابه الذى يحمل عنوان«المجتمع الفوضوي»، الصادر عام 1977، حيث ندد بالتدمير وانتفاء ضرورته، طارحا مجموعة من الأسئلة التى تكشف عن حد تنافر الفوضى مع القيم الإنسانية، نشير منها إلى سؤالين، الأول: «إلى أى مدى يمكن أن يزدهر المجتمع حقا فى وسط فوضوي؟»، والثاني: «ترى ألا تؤدى الصراعات إلى تفتيت المجتمع؟». كذلك تناول المفكر وعالم السياسة الأمريكى «ألكسندر ويندت» موضوع الفوضى فى مقالته عام 1992 «الفوضى هى ما ينص عليه: البناء الاجتماعى لسياسات القوة»، وكتابه «النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية» 1999، الذى يؤكد أن الفوضى نتاج تصنعه الدول وليس قانونا مسبقا، إذ الفوضى محض بنى اجتماعية وليست طبيعة نظام. إن اكتمال المعقول لا يعنى اكتمال الواقع، إلا أن الأمركة ادعت امتلاكها الحقائق، وراحت تمارس تحقيق مشروعها تدميرا لمجتمعات الشرق الأوسط لفرض نفسها بوصفها المعقولية الجديدة. صحيح أن الفوضى تنفى المعرفة انطلاقا من سيطرة المرئى باستهاماته وأقنعته، تضليلا للمعرفي، وتعطيلا لاستدراكاته، والصحيح أيضا أن الفوضى لا تشكل وضعا ثابتا فى المجتمعات؛ إذ هى صناعة موقوتة تخضع لمصادر بث وضخ لشحنات من الشائعات، التى تبدد المفاهيم والمرجعيات تحفيزا للممارسات السلوكية الفورية إسقاطا للعقلنة اغتصابا للحقيقة، لكن الصحيح كذلك أنه كانت هناك فى مصر حتى عام 2011 أسباب على المستوى الداخلى والخارجى احتلت مناطق من المعاناة المشبعة باليأس، منها أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية. وقد تمفصلت الأمركة مع الأوضاع فى مصر فدعمت بعض المنظمات وروجت لشخصيات، وأيضا دربت نشطاء مصريين، فعلى سبيل المثال تولت «منظمة الحرية» الأمريكية تدريب (3000 شاب مصري)، وإعدادهم للقيام بالاحتجاجات، ثم قامت ثورة يناير 2011 وتنحى الرئيس مبارك، وتولت القوات المسلحة مسئولية إدارة البلاد، وتمت إجراءات الانتخابات التى أفرزت فوز محمد مرسى فى يونيو 2012، عندئذ تأسست جماعة «تمرد» التى جمعت ( 22 مليون توقيع للمصريين) للمطالبة بتنحى محمد مرسى الذى لم يستجب، فخرج (30 مليون مصري) إلى الشوارع فى 30 يونيو 2013، وانتصرت إرادة المصريين، وتقوضت كل محاولات الغزو والسيطرة من الداخل والخارج، وراحت مصر تبرز وجهها الحقيقى بحمايتها الذاتية، لتؤكد أنها ليست قابلة للاستباحة والتضليل، فى ظل انهمام قواتها المسلحة التى تشكل أيقونة متكاملة للتضحية، واقتدارها المتفرد على نزع الوهم الذى أقيم بالفوضى المصنوعة. وتم عزل محمد مرسى ومحاكمته. لقد كان للمشير عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع فى ذلك الوقت الانعطافي، دور رائد فاعل فى التصدى بالردع الفورى لخلاص مصر من حكم الإخوان.

ولأن المهموم بالدفاع عن الوطن- مهما كان موقعه- يظل يعاين بلا انقطاع كل محجوب، وكل مخفي، ومسكوت عنه حتى أقصى أفق المستقبل؛ لذا عندما استشعر الرئيس عبد الفتاح السيسى حدسا ويقينا أن تراب أرض سيناء يئن من ممارسات الشر، التى تستهدف تبديد مصرية كيان سيناء التاريخى بهيمنة الإرهاب والفوضي، استدعى الرئيس السيسى القوات المسلحة، وعاود ارتداء زيه العسكرى معلنا:«مش حسمح لحد أن يدخل مصر فى الفوضى تاني»، وقد كشفت «العملية الشاملة سيناء 2018»، ما فوق الأرض وما تحت الأرض من صناعة الاعتقادات وتسويقها، وتخطيطات وإكراهات وأدوات إرهابية وتدميرية لصناعة مشهدية الفوضى للاستيلاء على سيناء وتبديد هويتها المصرية.