حسن حنفي

من المصطلحات المتداولة في الوقت الراهن، وخاصة في الوطن العربي، مصطلحي «الوحدة والتعدد». وهما ليسا مقولتين فلسفيتين مجردتين بل هما تنظير لعديد من المستويات الدينية والفلسفية والنفسية والاجتماعية. فالله واحد والكون متعدد. الخالق واحد والمخلوقات متعددة. الإيمان واحد ومضمونه متعدد. والنبوة واحدة والأنبياء متعددون. والوحي واحد ومراحله متعددة. وفي الفلسفة الحقيقة واحدة وتجلياتها متعددة. والواحد واحد وتكراره في الحساب متعدد. والحرف واحد وتكراره في اللفظ متعدد. والكلمة واحدة وتكرارها متعدد في الخطاب. وفي علم النفس الوعي الإنساني واحد ومظاهره متعددة في وحدة القول والعمل والفكر والوجدان. وفي علم الاجتماع الأسرة واحدة رغم تعدد أعضائها. والأمة واحدة رغم تعدد أقوامها ولغاتها وطوائفها. فالوحدة على مستويات وحدة الفرد، ووحدة الأسرة، ووحدة المجتمع، ووحدة الأمة.

وفي السياسة، الوحدة على ثلاثة مستويات: الأول، الوحدة القُطرية؛ فكل قُطر واحد مستقل عن الأقطار الأخرى المجاورة رغم وحدة اللغة والثقافة، ورغم الحدود، والمصالح المشتركة، والتكامل بينها في العلم والسواعد والطاقة والزراعة والصناعة والدفاع. والثاني، المستوى القومي وهو العروبة. وقد كانت رد فعل على الدولة العثمانية التي ضحت بالتعدد في سبيل الوحدة بينما كانت الدول الكبرى الغربية تريد تفتيت «الرجل المريض» ووراثته بعد القضاء عليه. فاضطهدت الأرمن والأكراد والتركمان والعرب. فتعددت الأمة دون وحدة. وتركتها أقواماً وطوائف تتقاتل فيما بينها. فإذا كان العثمانيون قد ركزوا على الوحدة دون التعدد، فإن الأقوام الناتجة عن سقوط دولتهم ركزوا على التعدد دون الوحدة. والثالث، الوحدة الإسلامية، والتي ركز عليها النظام العثماني وقمع التعدد، فاعتبر القطرية والعروبة كفراً تجب محاربته.

والجمع بين الوحدة والتعدد في النظم السياسية هو النظام الفيدرالي الذي يجمع بين وحدة المركز وتعدد الولايات. وهو النظام الذي حافظ على كيان عدة دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية نظراً لاتساعها، وكذلك إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا. وقد تطور هذا النظام إلى نظام الاتحادات مثل الاتحاد الأوروبي القائم على إلغاء الحدود التجارية بين أقطاره. وهو نظام ليس غريباً عن الثقافة الإسلامية كما هو معروف في «ميثاق المدينة» الذي أمر الرسول بكتابته. وهو يعترف بكل قوم. فالمسلمون أمة، والنصارى أمة، واليهود أمة، والمجوس أمة.. وكلها متساوية في الحقوق والواجبات. والإسلام هو الرابط بينها في الأمة الواحدة. «إِنَّ ‬هَذِهِ ‬أُمَّتُكُمْ ‬أُمَّةً ‬وَاحِدَةً ‬وَأَنَا ‬رَبُّكُمْ ‬فَاعْبُدُون». ‬وقبل ‬الإسلام كان ‬نموذج ‬التعدد ‬دون ‬الوحدة، ‬تعدد ‬القبائل ‬دون ‬الوحدة ‬بينها. ‬

لقد جربنا في تاريخنا المعاصر النظام القطري، فكانت النتيجة أن القطر لم يستطع أن يقوم بنفسه. فالعدوان عليه سهل، واقتصاده متعثر وهش. أما سياسياً فالصغير يصبح أكثر صغراً، وهكذا تتمزق الأقطار؛ فالعراق إلى ثلاثة كيانات؛ شيعية في الجنوب، وسنية في الوسط، وكردية في الشمال. وتتفتت سوريا بين سنة وعلوية وأكراد. وتتفتت اليمن إلى شوافع وزيود، وليبيا إلى عدة قبائل متناحرة. والسودان إلى شمال وجنوب وشرق وغرب.. فالتعدد يصل مداه بحيث تنتهي الوحدة.

لقد جربنا في حياتنا المعاصرة الوحدة بلا تعدد في عصر القومية العربية في الستينيات ابتداء من الجمهورية العربية المتحدة، وإسقاط اسمي مصر وسوريا في سبيل القومية العربية. وكانت النتيجة التآمر على الوحدة، والعودة إلى الانفصال. ثم الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، ثم مصر وسوريا والعراق واليمن، ثم مصر وليبيا على الورق أيضاً. وكانت النظم الجديدة مركزية مثل مصر. وهناك الجامعة العربية التي تحاول الجمع بين الوحدة والتعدد، ولكنها وحدة شكلية وتعدد فعلي. فهي عاجزة عن إيقاف الحروب الأهلية والصراعات القطْرية.

إن البديل عن هذه الخيارات الثلاثة التي جربناها؛ أي الخيار القطري، والخيار القومي، والخيار الإسلامي، هو النظام الفيدرالي الذي يجمع بين الوحدة والتعدد. في الدولة العربية الفيدرالية تكون الخارجية والدفاع في عاصمة الاتحاد، أما باقي الأنشطة الاقتصادية والسياسية والإعلامية والقضائية، فتكون في يد الدولة القطرية. تعطي الدولة الفيدرالية الأمن في الدفاع، والسياسة الواحدة في الخارجية تعبر عن وزنها الدبلوماسي بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد بزعامة أميركا وإسرائيل لملأ فراغ المنطقة.