عادل درويش

 «القانون حمار»… عبارة شهيرة تتردد.

وهي عنوان كتاب (1999) للمحامي الإنجليزي رونالد إيرفينغ لنماذج من المفارقات في مرافعات قضايا حقيقية تصحبها رسوم كاريكاتيرية، فلا يُسمح بالتصوير في المحاكم الإنجليزية.
الاستخدام الأشهر «للقانون حمار» جاء في رواية أوليفر تويست للأديب الإنجليزي تشارلز ديكينز (تصويره للندن القرن التاسع عشر وفوارقها الطبقية عبر شخصيات روائية تتعرض للظلم من التطبيق النصي للقانون، يشبه رسم الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ للقاهرة وشخصياتها في مطلع القرن العشرين ومنتصفه).
شخصية ديكينز تتعرض للمساءلة لفعل يجهله ارتكبته زوجته، ويخبرونه أن القانون يجعله مسؤولاً عن أفعالها، فأجاب وهو يعصر قبعته بيده: القانون إذن حمار - أحمق.
الأصل «القانون جحش» The law is an ass، وليس حماراً. وبينما الحمار هو رمز للغباء في الثقافات الشرقية فإنه رمز الصبر والعمل الشاق في الثقافة الأنغلوساكسونية (شعار الحزب الديمقراطي الأميركي استخدمه المرشح آندرو جاكسون 1828 في انتخابات الرئاسة)، أما رمز الغباء العنيد فهو الجحش. 
سواء كان جحشاً أو حماراً فإن التوظيف الساخر للعبارة بقلم تشارلز ديكينز، يرجعه بعض مؤرخي الأدب الإنجليزي لاقتباسه من مسرحية القرن السابع عشر «الانتقام للشرف» لجورج تشابمان في 1653؛ وبدوره متهم بسرقتها من هنري كلابثورن الذي اقتبسها بدوره من رواية شعبية قبلها بثلاثين عاماً وبطلها يقول: «يا للعار... إن معاقبة شخص على فعل هو من المسار الطبيعي للأشياء، يعني أن القانون جحش».
نص القانون كما صاغه المشرعون، وتطبيقه على يد الإدارة التنفيذية أو حتى في محكمة القانون لا يمكن الاعتماد عليه دائماً ليكون عادلاً أو يتوافق مع المنطق الطبيعي، وهو ملخص معنى أن القانون حمار يوجِّهه مَن يمتطيه.
هذا الموقف ربما يذكّر المتفرج المصري وهواة المسرح من العرب كيف لخص الكاتب الراحل لطفي الخولي (1928 - 1999) غباء نص القانون في المشهد الشهير «يا عالم... يا قضاة، يا أفوكاتوهات (الأساتذة المحامين)... فهّموني... أسدّ الشباك ولاّ أفتح الشبّاك؟».
مثل الرجل أمام المحكمة لأنه خرق قانون المباني بأن فتح نافذة في جدار داره لتطل على ممر جانبي دون إذن مسبق من البلدية، التي ساقته إلى المحكمة ففرض عليه القاضي غرامة. لكنه مثل أمام القاضي نفسه في اليوم التالي لأنه سدّ النافذة وأعادها جداراً كما كان، بلا إذن من البلدية؛ فحكم عليه بغرامة ثانية. ثم يمثل الرجل نفسه أمام القاضي مرة ثالثة بتكراره فتح النافذة نفسها مرة ثالثة بلا إذن. ويتكرر الأمر في دائرة مفرغة، لأن الرجل يحاول أن يصلح عملاً بأن يعيده إلى الأصل بعكس العمل الذي تلقى عليه إنذاراً من البلدية حتى تصل الغرامات إلى حد أدى إلى خراب بيته. القاضي لا يعطي إجابة شافية لأنه ينظر إلى كل قضية بشكل منفصل عن سابقتها. ورغم أن الموضوع هو النافذة نفسها، والخصمان نفسيهما لم يتغيرا، فالقاضي مقيّد بأحكام القانون التي تعد كل مخالفة منفصلة قضية قائمة بحد ذاتها.
ولا يجد الرجل مخرجاً في هذه الدائرة «السيزيفية» من جهود عدمية لا نهاية لها ولا هدف يقبله العقل من ورائها.
القاضي المصري، بجمود قانوني، لا يريد أن ينظر إلى الجانب الإنساني أو العدالة الطبيعية للمتضررين من الحكم، وذلك بعكس القاضي «آزداك»، الشخصية التي خلقها المسرحي الألماني برتولد بريخت (1898 - 1956)، متجاهلاً نص القانون لترك العدالة الطبيعية تأخذ مجراها. طالبت زوجة الحاكم بطفلها الذي تركته وراءها قبل أربع سنوات، لتنقذه الخادمة وربّته كابنها. رسم آزداك «دائرة طباشير قوقازية» (وهي عنوان المسرحية) حول الطفل قائلاً «المرأة التي تستطيع ضمه ستكسب أمومته». ثلاث مرات والخادمة تترك يد الطفل مفضلةً أن تخسره سالماً على أن تكسبه ممزّق الكتف؛ فيحكم القاضي بمنح الطفل للمرأة التي تفضل سلامته على هزيمة غريمتها.
مناقشة ما إذا كان القانون حماراً أم جحشاً أم مثل «الآي - فون» الذي يصحح ما تكتبه حسب مزاجه ويرسل على «تويتر» ما لم تقصد كتابته، هي محل نقاش كبير في الصحافة والرأي العام وبين القانونيين والمشرعين هنا في بريطانيا.
أصحاب منطق العدالة الطبيعية يستشيطون غضباً من موقف البوليس، وهو مؤسسة خدمة عامة، الذي يلتزم بحرفية النص القانوني ويحمي «حقوق إنسان» المجرم واللص والمغتصب قبل حقوق المواطن الذي تموّل ضرائبه، على المستويين المحلي والقوميّ، ميزانية البوليس وضباطه ومؤسساته.
قبل عشرة أيام فوجئ العجوز المتقاعد في الثامنة والسبعين ريتشارد أوزبورن - بروك بلصّين اقتحما منزله. الرجل دافع عن داره وزوجته الكسيحة مع أحد الشابين وفرّ الآخر. تمكن العجوز من انتزاع مفك كبير من يد اللص، وهو قوي في السابعة والثلاثين، وطعنه به في صدره. بعد قليل مات اللص متأثراً بجروحه في المستشفى.
قبض البوليس على صاحب البيت العجوز وحقق معه انتظاراً لتوجيه تهم القتل، والإفراط في استخدام القوة، والاعتداء على جسم إنساني. طبعاً هاج الرأي العام وشنت الصحافة حملة هائلة على بوليس لندن الكبرى.


كشفت التحقيقات الصحافية أن المتوفى لص محترف في سرقة المنازل والاعتداء والاحتيال ومطلوب في قضايا أخرى، ومن أسرة من المجرمين ولهم سوابق في السرقة والاحتيال والنصب.
أمام ضغط الرأي العام أفرج البوليس عن العجوز أوزبورن - بروك، «دون توجيه تهمة إليه» لكن أسرة القتيل جاكسون تهدد باتخاذ إجراء قضائي منفصل ضد صاحب البيت.
لكن أمام تهديدات شركاء المجرم المقتول وأسرته بالانتقام، أجبر البوليس والسلطات المحلية العجوز أوزبورن - بروك وزوجته الكسيحة على ترك منزلهما والانتقال إلى منزل آخر حرصاً على سلامتهما، ووضع حراسة طوال الأربع والعشرين ساعة.
أسرة القتيل وأصدقاؤه في الجريمة، يضعون أكاليل الزهور على أقرب مكان قُتل فيه، وهو سور حديقة منزل العجوز أوزبورن - بروك. تقليد بريطاني قديم. فهو في النهاية إنسان ومن أسرة.
الجيران وسكان الحي غاضبون، ويمزقون هذه الزهور ويدوسونها بالأقدام متهمين المؤسسة الحاكمة بالجنون لأنها تضع حقوق إنسان المجرم قبل حقوق رجل عجوز يدافع عن بيته وأسرته!
وحتى الآن لا يزال ميدان لينكولن إنفيلد (تحيط به مباني المحكمة العليا ومكاتب كبار المحامين) مزدحماً بالحمير التي ربطها أصحابها ودخلوا قاعات القانون المهيبة لصياغة نص يحدد «القوة الملائمة المسموح لشخص باستخدامها ضد لص اقتحم مسكنه».