هادي اليامي

 تبارى القادة العرب في إظهار استعدادهم للعمل على تجاوز النفق الذي تمر به الأمة، وتفعيل أساليب التعاون، وزيادة التنسيق المشترك، لتحقيق الأهداف العامة المتفق عليها..

استضافت مدينة الظهران أول من أمس القمة العربية التاسعة والعشرين التي عقدت في ظرف بالغ الأهمية، وسط أخطار عظيمة تحدق بالأمة، وتحيطها من كل جانب، وتحديات لم يسبق أن مرت بها طوال تاريخها، وأعداء كثر تكالبوا عليها، وكل منهم يريد أن يفرض عليهم رؤيته، ويمرر أجندته، ويحقق أهدافه، وكأن هذه الأمة العظيمة التي شرفها الله وأكرمها بأن جعل منها أفضل رسله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وسلم، باتت فريسة لكل ذئاب الأرض وهوامها.
إدراكا لحجم التحديات الماثلة، وإيمانا بضرورة البحث عن حلول جذرية، فقد أحسنت المملكة العربية السعودية -كعادتها- الإعداد لهذا الحدث الكبير، ووفرت له كامل مقومات النجاح، وبذلت الغالي والنفيس، وكان اجتماع وزراء الخارجية الذي سبق القمة بأيام معدودات عاملا مساعدا على تحقيق التوافق المطلوب، حيث تم تجاوز نقاط التباين، والاتفاق على رؤية موحدة، مما مهَّد الطريق أمام القادة العرب لمناقشة الملفات السبعة التي طرحت عليهم، وهي القضية الفلسطينية، تطورات الساحة السورية، الأزمة اليمنية، التدخلات الإيرانية في المنطقة، الأوضاع في ليبيا، جهود مكافحة الإرهاب، والتحديات الأمنية والسياسية في العراق.
أبرز ما تجلى في قمة الظهران هو الحضور الكبير لملوك ورؤساء وأمراء الدول، الذين سارعوا بالحضور، وفي يد كل منهم رؤيته للحل، وعزم على تحقيق النجاح. كذلك كان الخطاب التاريخي الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بمثابة خارطة طريق أمام إخوته قادة الدول المشاركة، ونبراسا يهدي السبيل، حيث قدم -رعاه الله- عرضا تفصيليا للواقع الذي تعيشه الأمة، والأخطار التي تهدد وجودها، وحدد هوية أعدائها، وفي مقدمتهم إيران التي ما فتئت تنسج دسائسها، وتحيك مؤامراتها، وتواصل مساعيها ليل نهار لإضعاف الدول العربية، وإذهاب وسائل قوتها، توطئة للانقضاض عليها الواحدة تلو الأخرى، والسيطرة على مقدراتها والتهام ثرواتها، ولأجل ذلك استمرأت التدخل السالب في شؤون دول المنطقة، بدءا من لبنان ومرورا بسورية واليمن والعراق، فأذكت لأجل ذلك الخلافات العنصرية، وأججت النزاعات المذهبية، والفتن الطائفية، فجيشت الميليشيات المسلحة التي أنفقت عليها معظم ثرواتها، حتى تحول شعبها إلى أحد أفقر الشعوب بالمنطقة، بعد أن كان بالأمس القريب من أكثرها غنى.
تحدث خادم الحرمين بعد ذلك عن الإرهاب مبينا خطره الداهم على استقرار الدول، وأمنها ونمائها، محذرا في ذات الوقت الأيادي الآثمة التي اعتادت أن تمتد خلسة في الظلام بالدعم لتيارات العنف والتطرف، دون أن تدرك أن دورها سوف يحين، إما عاجلا أو آجلا، لتشرب من نفس الكأس التي أذاقتها للآخرين.
وشدد خادم الحرمين الشريفين -كما اعتاد دوما- على الموقف العربي والإسلامي من القضية الفلسطينية التي وضعت على رأس أجندة القمة، مؤكدا أنها خط أحمر، غير قابل للمساومات والصفقات، وأن الأمة الإسلامية برمتها لن ترضى المساس بوضع القدس الشريف، ولن تتنازل عن المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مجددا موقف المملكة الثابت على مر التاريخ من هذه القضية، وأيضا الدعم المالي المستمر لفلسطين.
وفيما يخص القضية السورية التي تصنفها الأمم المتحدة بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العصر الحديث، تحدث خادم الحرمين بنبرة يعلوها الأسى على ما وصلت إليه أحوال الشعب العربي العريق، نتيجة لاختلاف الأجندة السياسية الدولية، والتدخلات الخارجية التي يدفع ثمنها الشعب الأعزل، داعيا إلى إيجاد حل سلمي للأزمة، يحقن الدماء، ويعيد الحقوق إلى أهلها.
وشدد الملك سلمان على موقف المملكة الثابت من رفض الانقلاب الذي قامت به ميليشيات الحوثيين الإرهابية في اليمن، مؤكدا أن الرياض لن ترضى بوجود نسخة ثانية من حزب الله اللبناني الإرهابي على حدودها الجنوبية، منددا بالممارسات المرفوضة للنظام الإيراني بإمداد المتمردين بالصواريخ المتطورة التي حاولوا بها استهداف الآمنين في المدن والقرى، ولم تسلم من محاولاتهم الآثمة حتى الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، في أبشع صور العدوان والإثم. كما لم تخل كلمة الملك من إشارات اقتصادية، فقد تحدث عن وجوب الاستغلال الأمثل للموارد، وضرورة العمل على تحقيق الأمن الغذائي العربي، والتضامن بين كافة الدول، والتعاون لما فيه مصلحة شعوبها ورفاهيتها.


كذلك تبارى القادة العرب في إظهار استعدادهم للعمل على تجاوز النفق الذي تمر به الأمة، وتفعيل أساليب التعاون، وزيادة التنسيق المشترك، لتحقيق الأهداف العامة المتفق عليها، مثمنين ما جاء في مضامين خطاب خادم الحرمين الشريفين، لكنهم مطالبون بإنزال كل تلك المشاعر الصادقة إلى أرض الواقع، تحقيقا لتطلعات شعوبهم، وصونا لأمن دولهم، وتعزيزا لمستقبل أجيالهم، فالتعاون لم يعد خيارا، بل ضرورة تفرضها تحديات المرحلة، على أن يشمل كافة المجالات، بدءا من المواقف السياسية والجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه حالة تفرض التخلص من أسباب الخلافات الثانوية، وتركيز الجهود على وضع حلول جذرية للقضايا الرئيسية، فالمشتركات تلغي المتنافرات حال وجدنا النوايا الصادقة والتوظيف الأمثل للعلاقات بكل تفاصيلها.