سطام المقرن

يجب العمل على إزالة التصورات السلبية من أذهان المسلمين والمسيحيين بالنسبة إلى الآخر وإحلال التصورات الإيجابية محلها، ويجب العمل على تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في أوروبا من خلال إجراء حوار جاد بين الإسلام والمسيحية

نشرت صحيفة «لوبارزيان» الفرنسية بياناً يدعو إلى إلغاء بعض الآيات من القرآن الكريم بدعوى أنها «تحرض على قتل غير المسلمين»، حيث طالب الموقعون على البيان بأن «تعلن السلطات الدينية أن آيات القرآن التي تدعو إلى قتل ومعاقبة اليهود والمسيحيين والكفار باطلة، كما حدث في عدم التجانس في الكتاب المقدس ومعاداة السامية الكاثوليكية التي ألغاها (مجلس) الفاتيكان الثاني، حتى لا يتمكن أي شخص من الاعتماد على نص مقدس لارتكاب جريمة» !.


كنت قد تحدثت في مقالة سابقة عن حوار الأديان بين المسيحية والإسلام، وذكرت أن ظهور بعض الحركات والمنظمات المتطرفة في السنوات الأخيرة، أدى إلى زيادة العداء والعنف ضد المسلمين، فأصبحت التيارات السياسية وبعض المؤسسات الاجتماعية في الغرب تنظر إلى الإسلام على أنه الخطر القادم على أوروبا، والعدو الذي يجب التصدي له والقضاء عليه، بالإضافة إلى وجود أسباب تاريخية وثقافية وسياسية أخرى، الأمر الذي قد يتطور إلى حالة من الحرب الباردة ضد المسلمين، والبيان الذي وقعه للأسف مجموعة من السياسيين والمثقفين والفنانين في فرنسا خير دليل على ذلك، ويجدر التنبيه هنا إلى أن بعض الغربيين يفكرون بهذه الطريقة وليس جميعهم.
هؤلاء السياسيون والمثقفون والفنانون يدركون جيداً أن نصوص الكتب المقدسة للأديان لا علاقة لها بالتطرف أو بالجرائم الإرهابية، وإن استخدمها البعض كغطاء وتبرير للعمليات الإجرامية، وما تضمنه البيان المنشور في الصحيفة الفرنسية بأن مجلس الفاتيكان قام بإلغاء ما يسمى بعدم التجانس ومعاداة السامية في الكتاب المقدس، كلام غير دقيق، ولو أن الموقعين على هذا البيان طالبوا بحذف أو تعطيل عبارات وفقرات ونصوص من كتاب الإنجيل المقدس، فستكون ردة فعل المجتمع الفرنسي وكافة المؤسسات الدينية ضدهم ولن يقبلوا بذلك على الإطلاق.
فعلى سبيل المثال ينتقد البعض المسيحية ويقول بأن كتاب الإنجيل المقدس يحتوي على عبارات ونصوص تدعو إلى العنف والقتل، بالإضافة إلى أن الحروب الصليبية كانت تعتمد على نصوص الإنجيل في حروبها ومعاركها، ومع ذلك لم يتم إلغاء نص واحد من هذه النصوص، وكان رجال الدين المسيحيون يدافعون عن ذلك ويقولون: «العنف في العهد القديم كان بمثابة عقاب من الله ضد الأمم الشريرة. هذه الشعوب قررت عصيان الله، وغواية شعب الله لارتكاب الإثم ليفسدوا الأرض وينجسوها»، وأما بخصوص الحروب الصليبية فيقولون: «احتلال الصليبيين للقدس لم يكن من الله، لذلك انتهى بالهزيمة، فهذه الأرض ليست لهم. المسيحية ديانة روحية مسالمة لا تشجع على احتلال الأراضي ولا على السيادة السياسية على أي شعب». 


في الواقع أن النصوص المقدسة لجميع الأديان تخضع للفهم والتفسيرات البشرية فيتشكل الفكر الديني على هذا الأساس، فتكون هناك كتب أخرى تشرح النصوص الدينية وتفسرها، فهي شارحة للنصوص وليست كتبا إلهية مقدسة، وبناءً على ذلك تحركت الكنيسة على مستوى تعديل الفكر الديني المسيطر على الذهنية المسيحية، وإلغاء الفكر الديني الذي كان يقرر أن غير المسيحيين ليسوا من أهل الجنة وفي النار.
وعلى هذا الأساس، أعلنت الكنيسة رسمياً بالاعتقاد بأن المسلمين هم موحدون وملتزمون بالأصول الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء ويعتقدون بالبعث ويوم القيامة، ويتحركون في خط الإيمان والرسالة الإلهية، وهذا الإعلان يناقض تماماً ما جاء في البيان المنشور في صحيفة «لوبارزيان»، والحقيقة ليس هناك إلغاء لنصوص الإنجيل بتاتاً، وإنما كان هناك تعديل وتجديد للفكر الديني الذي يفهم ويشرح النص الديني في الكتاب المقدس.
البيان السابق الذي وقع عليه بعض الساسة والمثقفين الفرنسيين تجاهل تلك الحقيقة وخالف الكنيسة الكاثوليكية التي تحاول إيجاد نوع من الانسجام مع المتغيرات الحديثة، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على الفكر التقليدي للاهوت المسيحي الذي لا يؤمن به المليارات من الناس على وجه الأرض، وبالتالي فإن ذلك البيان لا يدافع عن السامية الجديدة كما يدعي موقعوه، وإنما يحاربها من خلال الدعوة إلى الكراهية لأهداف ومصالح سياسية قد تتطور إلى السياسة الخارجية للدول الأوروبية للأسف الشديد، كما يضعف من موقف الكنيسة في عقد جلسات وحوارات دينية مع المسلمين، وليس هذا وحسب، بل إن تبعيات البيان تلحق أضراراً بالمسلمين والأوروبيين على حد سواء.


وأخيراً، يجب العمل على إزالة التصورات السلبية من أذهان المسلمين والمسيحيين بالنسبة إلى الآخر وإحلال التصورات الإيجابية محلها، ويجب العمل على تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في أوروبا من خلال إجراء حوار جاد بين الإسلام والمسيحية، فالإسلام لا يمثل خطراً على الغرب، ولكنه لم يفهمه الناس في أوروبا بصورة صحيحة، والعكس صحيح، وهنا أقترح على مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات أن يمسك بزمام الحوار من أجل السعي إلى حل المشاكل الثقافية مع الآخرين.
بالإضافة إلى ما سبق، ولأهمية الحوار الجاد مع الآخر من الضروري أن تكون هناك إستراتيجية تتمثل في فهم الدين بما يتناسب مع فهم الإنسان المعاصر عن العالم والبشرية، وذلك من خلال تنقيح ونقد الموروث الديني، والبحث عن إجابة لأسئلة الإنسان الحديث من النصوص الدينية، ودراسة ونقد ما طرحه القدماء من أحكام فقهية وفتاوى، وبعبارة أخرى يكون التجديد من خلال التحرّك برؤية جديدة لفهم النصوص الدينية وفق معطيات الحضارة الحديثة.