فيصل العساف

كم من الوقت يلزم متشدّقي العروبة حتى يمكنهم وصف إيران التي تستبيح عالمنا العربي بالمحتلة؟ بين إسرائيل وإيران يصدق المثل القائل: «رحم الله الحجاج عند ابنه!»، إيران فعلت في السنوات الـ15 الأخيرة ما لم تتجرأ إسرائيل على فعله طيلة 70 عاماً، قتلت وهجّرت وانتهكت بدم بارد وطائفية همجية بغيضة دولاً بكاملها، وكانت في أخرى جسراً يسهل على المعتدين امتهانها. إيران لم تتمكن من الصمود حتى هذه اللحظة لولا قرابين الخيانة التي قدمتها تحت أقدام المصلحة القميئة التي تصبو إليها، وذهب ضحيتها الملايين من الشعوب العربية و «الحبل على الجرار» ما لم تتخذ في حقها الإجراءات الرادعة كافة.


نحن أمام ازدواجية حقيقية، تدفع منطقتنا فاتورتها الباهظة بسذاجة مركّبة باسم القضية الفلسطينية التي عششت داخل الوجدان العربي والإسلامي، لتحجب عنه الرؤية، وتركته خائراً مستسلماً لشعارات الزيف التي تُرفع بين الفينة والأخرى. من يصدق أن نصر الله كان يوصف قبل سنوات قليلة بـ «سيد المقاومة»! من يتخيّل بأن كثيراً من الناقمين على إيران والميليشيات التابعة لها بعد كل الذي فعلته في العراق وسورية، يهتفون اليوم بحياة الإرهابي قاسم سليماني! من ينسى: قل لا إله إلا بشار؟ وتلك المشاهد الفظيعة للجيش «العربي» السوري الذي تخلى عن إنسانيته! مشكلتنا في هذه البؤرة المليئة بالتناقضات، أننا نخوض معتركاً صعباً لا يستطيع كثيرون ترتيب أولياتهم خلاله، ولا تمييز خصومهم فيه.

على رغم ذلك كله، يمكن القول إن إيران الآن شبه «مكبلة» بما تعنيه الكلمة، باتفاق ليس ككل الاتفاقات، أميركا- الحلقة الأهم فيه- انسحبت منه، والدولة البوليسية روسيا تترنح في سورية بعد أن تعرضت لأصناف المهانة على يدي دونالد ترامب الذي كشّر عن أنيابه الحادة وهو يعاقب «بشار الكيماوي»، ليكشف زيف المزاعم التي تبشر بعودة العافية والرشاقة إلى «الدب»، فيما الأوروبيون الذين لا يتجرأون- في الواقع- على مقاومة المد الأميركي يندبون حظهم على طاولة منافعهم، مطالبين بالالتزام ببنود الاتفاق «البائس» ويعلنون بقاءهم ضمنه. وخلف ذلك كله يقف الدعم الإقليمي العادل لقضايا المنطقة بزعامة السعودية والإمارات. أما الإسناد الإسرائيلي «الضارب» بقوة في هذه المرحلة، فإن لسان الحال العاقل والبعيد من أحلام اليقظة التي أورثت عروبتنا كل هذا الهوان يقول: لم آمر به، لكنه لم ولن يسؤني. يبقى الحديث عن الموقف التركي، أو ذروة سنام النفاق المتأسلم، الذي يثبت كل مرة من خلال تغريده خارج سرب الإسلام والمسلمين بأنه مجرد بوق ساد ذات غفلة من الزمن، قبل أن تتموضع السعودية في المكان الصحيح، وتقلب طاولة الصبر على كل المتنفعين، وتقضي على أحلام الشرق الأوسط الجديد بكل تبعاته وخونته، بقيادة المحامي البارع عن مكانتها وكينونتها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي أعاد المياه إلى مجراها الأصيل.

إيران التي يتقلب ملاليها على نار مستعرة في الداخل جراء الأوضاع الاقتصادية المنهارة التي تسبّبت بها تدخلاتهم الإقليمية السافرة، ودعمهم اللامحدود لمفاعيل الدمار في الداخل العربي، تعاني مشكلتين حقيقيتين، النوايا الأميركية من جهة، وفي الجهة الأخرى بقية أطراف الاتفاق يعيدون ترتيب خياراتهم ولكن في الإطار الأميركي، خصوصاً أن مسرحيات المظلومية التي تسوّق لها بين «دراويش» العربان لا تنطلي عليهم. إيران في وضع صعب للغاية، لن تفلت من تبعاته ولو تعلق خامنئي بأستار «الكنيست والبيت الأبيض». ولا عزاء لأيتامها ولا إلى الهائمين على وجوههم بلا مواقف فاعلة مؤثرة، ولا إلى الذين يكيلون بمكيالين في وجه السعودية وشرفاء الخليج... ابقوا في أماكنكم المتأخرة وصدقوا أماني أنفسكم وادعموا من تشاؤون. القافلة السعودية تسير في ثبات كما عودتكم، ولكم أنتم ما تعودتم عليه.