داليا عاصم

الوقوف أمام الكاميرا وسحر شاشة التلفزيون يجلبان النجومية والشهرة والجماهيرية ويمنحان المذيع سلطة وقدرة على توجيه الرأي العام وتشكيله، إلا أن العمل الإعلامي يتملك من يمتهنه، ويسيطر على ذهنه وتفكيره على مدار الأربع وعشرين ساعة، بل ويصبح نمط حياته مرتبطا بعمله الإعلامي ووقته لا يصبح ملكه، بل ملكا لجمهوره وضيوفه وشاشته التي يطل عبرها. فهل يمكن أن ينفك هذا الارتباط الوثيق بين المذيع وشاشته بالابتعاد عن الأضواء والشهرة؟ أم أن الشهرة ستظل تطارده وتجتذبه مرة أخرى؟

عدد كبير من الإعلاميين يعتزل تقديم البرامج لفترة ثم يعاود الظهور من جديد، سواء في مجال تقديم البرامج الترفيهية أو الرياضية أو البرامج الحوارية (التوك شو) أو الثقافية. أشهر الأمثلة في مصر هي الإعلامية نجوى إبراهيم الشهيرة بـ«ماما نجوى» التي توقفت لفترة طويلة عن تقديم البرامج لكن أضواء الشهرة ظلت تطاردها كضيفة على البرامج التلفزيونية، وعادت لتطل على الشاشة من خلال برنامج «بيت العائلة» كما أنها أيضا تقوم بالتدريس من خلال دورات للتدريب الإعلامي للشباب. كذلك الإعلامي محمود سعد اعتزل لمده عامين ثم عاود الظهور من جديد، كذلك الإعلامي معتز الدمرداش ابتعد فترة عن الشاشة بعد شهرته الجارفة عبر قنوات «إم بي سي» ثم تنقل عبر عدد من الشبكات الإعلامية عبر برامج «توك شو»، والإعلامية هالة سرحان التي قضت فترات خمول وفترات توهج إعلامي لكنها لم تعتزل العمل بعد.. والقائمة تطول.

وقد أثار إعلان الإعلامي عمرو أديب عن توقف برنامجه «كل يوم» على قناة «أون تي في» يوم غد، بعد 22 عاما من تقديم البرامج تساؤلا ملحا: هل يمكن للمذيع أن يعتزل العمل الإعلامي؟ ومتى يمكنه ذلك؟ بصيغة أخرى: هل يمكن للمذيع أن يتقاعد؟

حاولت «الشرق الأوسط»: «التعرف على قرار الإعلامي عمرو أديب، وما إذا كان اعتزالا أم (استراحة محارب) لكن لم نصل لرد منه، ومؤخرا كشف الإعلامي خيري رمضان عن اعتزاله التقديم التلفزيوني في عام 2019، كما أعلن شريف عامر، مقدم برنامج «يحدث في مصر» على قناة «إم بي سي مصر» أنه قرر أن يعتزل عند بلوغه الـ50، وقال في حوار له مع جريدة الشروق المصرية: «على الرغم من أنني الحمد لله بشهادة الكثيرين، حققت قدرا من النجاح في وقت معين، هو نسبيا كان مبكرا بالنسبة لعمري، فإنني يشغلني بشكل مستمر ما يمكن أن أقدمه بعد بلوغي الخمسين عاما، وأفكر كثيرا في الذهاب للكتابة، لأنني أحبها جدا، ولكن لا أستطيع أن أمارس هذه المهنة إلا بعد أن أتوقف عن تقديم البرامج».

هناك أيضا أمثلة كثيرة بين الإعلاميين السعوديين منهم: نوال بخش، وسلوى شاكر، ومريم الغامدي، ووفاء بكر يونس، وأمين قطان وعبد الله راجح والدكتور حسين نجار ومهدي الريمي، الذين اعتزلوا العمل الإعلامي، وبالكويت أعلنت الإعلامية حنان جابر اعتزالها الإعلام نهائيا.

«الشرق الأوسط» طرحت على عدد من الإعلاميين تساؤلا حول ما إذا كان ممكن لمقدم البرامج أن يعتزل أو يتقاعد؟

الإعلامي مفيد فوزي صاحب الباع الطويل الممتد عبر أكثر من 30 عاما في التقديم التلفزيوني، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم أعتزل العمل الإعلامي أو الأضواء ولم أتوقف؛ لأن الحس الإعلامي في دمي، سألت ذات مرة هديل ابنه نزار قباني «بابا مات بإيه؟» قالت: «مات عندما كف عن الشعر» هذه العبارة لا تزال راسخة في أذني؛ لأنه عندما يكون لدى الإنسان شغف ما أو لديه اهتمام طاغ طول عمره بعمل ما ثم يتوقف عنه فجأة تحدث له صدمة ويمكن أن ينهار».

دخل فوزي مجال التقديم التلفزيوني بعد شهرته في عالم الصحافة وإعداد البرامج لكبار المذيعين في مصر عبر الأثير أو عبر التلفزيون. ويرى مفيد فوزي أن «الإعلامي ليس كلاعب كرة القدم يمكن أن يعتزل ويقام له حفل اعتزال ربما لبلوغه سن معينة وعدم قدرته على مواصلة اللعب، لكن طبيعة العمل الإعلامي وضغوطه وكل متاعبه هي جزء من اللعبة والمعادلة»

ويؤكد: «يندر أن يتوقف الإعلامي ويعتزل إذا كان موهوبا حقا، وكما قال الدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس الإبداعي رحمه الله: (حينما يكون الإنسان موهوبا ويعترف به المجتمع فإن هذه الموهبة تكبر وتنمو وتتطور، وهذا الاعتراف بمثابة «توثيق للموهبة»).

يتابع فوزي: «لا أذكر أن هناك مذيعاً قرر الاعتزال إلا وأن تكون الأسباب وظروف العمل أو ظروفه الحياتية أو الصحية، قد أرغمته على ذلك، فمثلا: ليلى رستم اعتزلت بسبب المرض، وحمدي قنديل بسبب المرض والسياسة... وهكذا، لكن الغالبية العظمى يستمرون حتى آخر لحظة في حياتهم».

يؤكد فوزي أنه كان على وشك تقديم برنامج جديد مع قناة العاصمة إلا أنه قرر الانتقال إلى «أون تي في» ثم تغيرت إدارتها فلم يتم التعاقد، لكنه ما زال كما أكد: «الإعلام يجري في دمي كالكرات الحمراء والبيضاء».

أما الإعلامي المصري جمال الشاعر، الذي عمل مقدما للبرامج في التلفزيون المصري الرسمي، ثم انتقل للعمل الإداري في قطاع القنوات المتخصصة وترأس القناة الثقافية المصرية، وأصبح الآن عضوا في الهيئة الوطنية للإعلام، كان قد أعلن استقالته على الهواء من شاشة القناة الثانية المصرية احتجاجا على سياسة التلفزيون المصري في عهد «الإخوان المسلمين» الإرهابية، معترضا على تضييق سقف الحريات لكنه قدم خبراته الإعلامية في مجالات أخرى بعيدا عن التقديم التلفزيوني، من خلال التدريب في معهد الإذاعة والتلفزيون المصري، ويستعد لصدور ديوان شعري جديد له، يقول الشاعر لـ«الشرق الأوسط»: «أحيانا يحتاج الإعلامي لترتيب أولوياته وتضطره ظروف وملابسات للابتعاد عن الشاشة، لكن في اعتقادي أن الإعلامي سواء مذيعا أو كاتبا لا يعتزل ولا يمكنه ذلك. قد يغير مساره الإعلامي لكن يستمر في أداء دوره تجاه المجتمع عبر وسائط أخرى، وقد يتجه لنقل خبراته الإعلامية للأجيال أخرى عبر التدريس أو سن التشريعات الإعلامية وغيرها».

يشير الشاعر إلى أن «الأستاذ محمد حسنين هيكل ظل يقدم البرامج ويكتب في الصحف ويؤلف كتباً حتى مشارف التعسين من عمره»، مضيفاً: «على الصعيد العالمي لدينا مثال حي هو لاري كينغ، فهو مذيع لامع ويؤلف الكتب ولم يتوقف عن التقديم».

يؤكد الشاعر: «للأسف قد يجبر المذيع على الاعتزال بسبب موجة التسطيح وسيطرة السياسة الإعلانية على المحتوى»، وأضاف: «أنا حزين أن معظم نجوم الإعلام القديرين حوصروا، ثم تم دفعهم إلى الاستقالة، كنوع من العزل والحجب؛ لذا نحن بالفعل أمام كارثة لأن غالبية من نراهم على الشاشات الآن لا يملكون الكاريزما أو الثقافة التي تؤهلهم لكي توكل لهم مهمة تكوين الرأي العام، أو حتى الترفيه عن الجماهير»، وتابع متأثرا: «أتذكر الإعلامي الكبير الراحل طارق حبيب أنه مات قهرا حيث لم يجد فرصة في كل هذا الكم من الفضائيات ومساحة تليق بخبرته وتاريخه الكبير».

رأي آخر تتبناه الدكتور درية شرف الدين، وزيرة الإعلام المصري السابقة، ومقدمة برنامج «نادي السينما» على التلفزيون المصري الذي حظي بجماهيرية جارفة، حيث ترى أنه «يمكن بالفعل للإعلامي أن يتقاعد في أي وقت ويتخذ قرارا بالاعتزال على الرغم من حبه للعمل الإعلامي وأضواء الشهرة والنجومية؛ لأن العمل الإعلامي كأي عمل أو مهنة أخرى تتأثر بعامل السن والمرحلة العمرية، بل وتؤكد شرف الدين: «الإعلامي الذكي هو من يتخذ قرار الاعتزال بالوقت المناسب ويترك الساحة لآخرين ليكملوا الرسالة». وتشير درية شرف الدين إلى أن الأمر يتعلق بقدرة الإعلامي على مواصلة العمل والظروف المحيطة به بكل تأكيد».

وترى أن الإعلامي يمكن أن يمارس العمل الإعلامي بصورة أخرى تتمثل في تدريب الإعلاميين الشباب أو التدريس الأكاديمي في الجامعة أو تأليف كتب متخصصة في التقديم التلفزيوني أو كتابة المقالات وغيرها من الأنشطة التي يمكن أن يفيد بها الآخرين».

وربما هنا يجب أن نشير إلى أن الإعلامي حافظ الميرازي بعد أن توقف عن التقديم التلفزيوني أصبح مدرسا للإعلام بالجامعة الأميركية بالقاهرة، فضلا عن تجربته في تقديم برنامج عبر الإنترنت. وبنظرة إلى الإعلام اللبناني، فإن أشهر الإعلاميين اللبنانيين في الوطن العربي جورج قرداحي أيضا توقف عن العمل فترة ثم عاود الظهور عبر عدة برامج ثم أعاد تقديم برنامجه الشهير «من سيربح المليون؟» بحلة جديدة على قناة «سي بي سي المصرية».

تقول الإعلامية اللبنانية ليليان ناعسي لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لي من الصعب جدا اتخاذ هذا القرار، ولكن إذا اتخذ القرار من جانب أي وسيلة إعلامية أعمل بها، سوف أحترمه ولكن سأحاول البحث عن مكان آخر».

وتضيف: «أعمل بالإعلام منذ أن كان عمري 16 عاما، فلا أعرف مهنة أخرى غيره، ولكن واقعيا أنا أعلم أنه سيأتي يوم ما أتوقف فيه عن العمل؛ لذا أنا مدركة أنه يجب علي أن أتعايش مع الأمر، أعلم أن هناك وقتاً أو مرحلة معينة يجب للإعلامي التوقف فيها وفعل أمور أخرى يحبها واهتمامات أخرى لم يكن يجد الوقت لها، وربما أنقل خبرتي لأجيال جديدة أو للتدريب».

وتتابع ناعسي موضحة: «أغلب من تركوا الشاشة لم يكن الأمر برغبتهم وغالبا ما تكون هناك ظروف خارجة عن إرادتهم، أو لا يوجد مكان يليق بمكانتهم وخبرتهم، لأن السوق أصبحت صغيرة، مقارنة بالأعداد الكبيرة من المذيعين».