الإنجازات السعودية تتحول إلى قنبلة حضارية تضرب إيران!

 صالح القلاب

 ربما، لا بل المؤكّد، أنَّ القفزة الإصلاحية النوعية، التي كانت قد أقدمت عليها المملكة العربية السعودية في هذا العهد، الميمون والواعد حقاً وحقيقة، قد جاءت في سياق مجاراة حركة التاريخ وكخطوة ضرورية للانتقال من قرن سابق إلى قرن جديد له معطياته ومتطلباته، وبخاصة أن المجتمع السعودي قد شهد في العقود الأخيرة متغيرات وتحولات اجتماعية هائلة عنوانها كل هذه الأعداد من خريجي المعاهد والجامعات الغربية وكل هذه المستجدات التي جعلت مجتمع نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن الجديد يختلف عن مجتمع بدايات الألفية الثانية التي كانت بدايتها بداية إنشاء هذه الدولة التي كانت أثبتت وجوداً كونياً فاعلاً خلال سنوات قليلة.

كان أحد المفكرين الصينيين قد قال مع بدايات إطلاق «المسيرة الطويلة» التي قادها ماو تسي تونغ، إنك عندما تنظر إلى النهر، وأي نهر، تعتقد أن مياهه ثابتة لا تتغير وذلك في حين أن هذا النهر يتغير ليس في كل دقيقة وإنما في كل لحظة ويصبح هناك نهر جديد بعد كل رمشة عين، وحقيقة فإن هذه هي سمة المجتمعات، وإن المجتمع السعودي الحالي هو غير المجتمع السعودي الذي كان قائماً وموجوداً في النصف الأول من القرن الماضي وأيضاً في النصف الثاني من هذا القرن نفسه وحيث جاءت بعد ذلك هذه الانتقالة النوعية التي وضعت المسيرة الحضارية السعودية على بداية طريق جديد في اتجاه المستقبل.
ولعلّ ما تجب الإشارة إليه هو أن هذه القيادة، التي هي استكمال لمسيرة سابقة طويلة، لكنه استكمال مميز، قد التقطت اللحظة التاريخية واتخذت قرار التحولات الإصلاحية التي أقدمت عليها والذي تطلب اتخاذه ثقة متناهية بأن هذا هو ما يريده الشعب السعودي وأنه لا بد من التحرك بسرعة لأن التردد سيكون ثمنه مكلفاً ولأن حركة التاريخ ستواصل مسيرتها وبسرعة ضوئية وهي لا يمكن أن تنتظر أحداً على الإطلاق.
ويقيناً لو أن صاحب القرار لم يتخذ هذه الخطوة المناسبة في اللحظة المناسبة، ولو أنه لم يتجاوز عراقيل قوى الشد العكسي، وهؤلاء موجودون في كل المجتمعات وعلى مدى حقب التاريخ كلها، بحزم وشجاعة لكانت ضاعت، ولو مؤقتا، على هذا البلد العظيم وعلى هذا الشعب فرصة ثمينة قد لا تتكرر في المدى المنظور وقد تستجد أوضاع وظروف تجعل اغتنامها إنْ ليس مستحيلاً فليس بسهولة ما جرى بالنسبة لهذه الانتقالة التي أخذت المملكة العربية السعودية إلى حيث الركب الحضاري الكوني يغذ السير على هذا الطريق المتعرّج الطويل.
إن المقصود بهذا كله هو أن هذه القفزة النوعية التي أقدمت عليها المملكة العربية السعودية هي التقاط للحظة تاريخية سانحة، وهي استكمال واع لبنيان كان قد وضع مداميكه الأولى الجدود والآباء، مما يعني أن كل ما جرى وبكل هذه السلاسة والسهولة واليسر هو تحوّل سعودي في الاتجاه الصحيح وليس له علاقة بأي توتر في العلاقات لا مع إيران ولا مع غيرها، لكن المعروف أن أي إنجاز حضاري لا بد وأن تنتقل عدواه إلى شعوب بعض الدول القريبة والبعيدة ولا بد من أن يكون حافزاً لهذه الشعوب لتثور على أنظمتها إنْ هي بقيت تتصدى بالقوة والعنف لحركة التاريخ ومنعها من الوصول إليها كما وصلت لغيرها.
الآن يبدو أن تأثير الالتقاط السعودي لهذه اللحظة التاريخية وإنجاز كل هذه الإصلاحات التي تم إنجازها بسلاسة متناهية وبالتفافٍ شعبي هائل وبخاصة من قبل الأجيال الشبابية الصاعدة قد وصل إلى إيران، فالإيرانيون قد ازدادوا كرهاً بصورة عامة لهذا النظام، أي نظامهم، الذي قدماه في القرن الحادي والعشرين لكن رأسه لا يزال هناك في الكهوف الزمنية السابقة البعيدة، والذي ليبعد سيف التغيير عن عنقه بادر إلى القيام بكل هذا التدخل الاحتلالي في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية وكل هذه الاختراقات المذهبية للعديد من الدول الإسلامية.
عندما أطاحت ثورة الخميني بعرش الطاووس، عرش محمد رضا بهلوي، في عام 1979 ظن الشعب الإيراني بأكثريته وبكل مكوناته القومية والمذهبية أن إيران ذاهبة في قفزة نوعية إلى الأمام وأنها ستغادر خنادق القمع والتخلف والسجون وستدخل عالم الإصلاح والحريات العامة والمساواة، لكن ما لبثت الأمور أن اتضحت على حقيقتها وأصبح عنوان المرحلة الجديدة صادق خلخالي وسجن «إيفين» وحلّت «إطّلاعات» محل الـ«سافاك» وأصبحت أعواد المشانق هي عنوان المرحلة الجديدة وحيث عمّ الفساد البلاد كلها واستهدِفتْ الأقليات القومية كما لم تستهدف إلّا في العهد الصفوي الذي جاء هذا النظام القائم ليستكمل دوره السابق إنْ في إيران وإنْ في الدول المجاورة.
لم يتوقع الإيرانيون عندما انطلقوا في مظاهرات مليونية صاخبة عشية عودة الخميني من باريس في فبراير (شباط) 1979، أن الأمور ستصبح أسوأ كثيراً مما كانت عليه في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، فقد كانوا يحلمون بحريات عامة وإنْ بحدود ضيقة ومختصرة، لكن هذا النظام «المُعمّم» الذي كان وعدهم بأنه سيملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جوراً ما لبث أن أماط اللثام عن وجهه وظهر على حقيقته وحيث لم يسْلم حتى بعض كبار المُعمّمين من شروره وويلاته ومنهم شريعة مداري وحسين منتظري وغيرهما، وكل هذا فإن حتى القوى التي كان دورها أساسياً في إزاحة النظام السابق وفي مقدمتها «مجاهدين خلق» وبعض المكونات القومية الأخرى كالأكراد الذين تم تعليق بعض رموزهم على أعمدة الكهرباء في كرمنشاه بعد انتصار الثورة الخمينية بأيام قليلة، قد تعرضت وهي لا تزال تتعرض لقمع همجي كقمع العصور الوسطى!!
المهم أن التقاط السعودية للحظة التاريخية السانحة والقيام بكل هذه الإصلاحات الحضارية، وليست السياسية فقط، قد دفع الإيرانيين وبخاصة جيل الشباب من الإناث والذكور إلى مطالبة نظامهم، هذا الذي يصفونه بالتخلف والاستبداد والتمترس في كهوف التاريخ المظلمة القديمة، بالمثل والسماح للمرأة الإيرانية بالحقوق التي حصلت عليها المرأة السعودية وإطلاق إبداعات الشباب والتوقف عن إرسالهم ليكونوا وقوداً لحروب ظالمة عنوانها التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة والدول البعيدة أيضاً.
وحقيقة أنَّ هذه التحولات الحضارية التي شهدتها المملكة العربية السعودية قد شكلت القنبلة الاجتماعية الهائلة التي تفجرت في إيران، فعدوى هذه الإصلاحات التي تمت بسلاسة تدلُّ على أن الشعب السعودي، إنْ ليس كله فمعظمه، كان بانتظارها، قد انتقلت إلى هذا البلد المجاور الذي يتكئ على إرث حضاري تاريخي ابتلعته كهوف هذه المرحلة الظلامية وبات الشباب تحديداً يبحثون عن محمد بن سلمان إيراني ليحمل راية التحديث في بلادهم كما حملها هذا الأمير السعودي الذي أصبح مثالاً لأبناء جيله إنْ في الدول العربية وإنْ في الدول الإسلامية.
لقد حرص الغرب عندما أصبحت كوريا بعد حرب بدايات خمسينات القرن الماضي كوريتين، على تحويل كوريا الجنوبية إلى دولة منفتحة يتمتع شعبها بالتكافؤ والحريات العامة والرخاء الاقتصادي مقابل شمالية مغلقة ومنغلقة على نفسها ومتخلفة اقتصادياً واجتماعياً، وها هي تخضع الآن للأمر الواقع وتتخلّى عن قنابلها النووية وصواريخها.. وقد تتخلّى لاحقاً عن قائدها «المحبوب والمحترم»!! من قبل نحو ثلاثين مليوناً من الكوريين الشماليين الذين باتت عدوى إخوانهم الجنوبيين تنتقل إليهم، وهذا هو سبب كل هذه التحولات السياسية الطارئة الأخيرة.
إن عدوى الانفتاح والإنجازات الحضارية تنتقل في العادة من دولة إلى دولة أخرى وبخاصة الدول المتحاددة والمتجاورة كما هو وضع الكوريتين ووضع بعض دول أوروبا الشرقية السابقة وأميركا اللاتينية وأفريقيا أيضاً، ويقيناً أن ما جرى في المملكة العربية السعودية سوف ينتقل إلى إيران بالتأكيد ومهما لجأ نظامها الذي لا يزال يعيش في كهوف التاريخ المظلمة إلى استخدام العنف والقوة وافتعال الحروب الإقليمية وإشغال الشعب الإيراني بسفاسف الأمور وبخرافات تاريخية لا تتلاءم لا مع القرن الحادي والعشرين ولا حتى مع القرون التي سبقته.
إنه لا يمكن أن تصمد إيران الخمينية أمام معطيات حركة التاريخ ما دامت هناك مستجدات في هذه المنطقة ستنتقل إلى الشعب الإيراني وما دام التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية لم يعد مقبولاً حتى من قبل قطاعات واسعة من أتباع المذهب الشيعي نفسه، وهنا فلعل هناك من سمع هتافات العراقيين يوم الأحد الماضي بعد انتهاء انتخاباتهم التشريعية: «العراق حرة.. حرة.. الإيراني يطلع برّا».