نبيل عمرو

 إحدى عشرة سنة كبيسة عاشتها غزة في حالة حرب وحصار، وبلغ الوضع الإنساني فيها حداً من التدهور لا مثيل له، حتى في مدن الربيع العربي التي لم تضطر حتى الآن - رغم هول ما حل بها - لشرب الماء الممزوج بالرمل، والعيش بين ركام بيوت هدمت في جولة سابقة، وتنتظر أن تهدم في جولة قادمة.

هذه البقعة التي تقل مساحتها عن أربعمائة كيلومتر مربع، والتي هي من أكثر الأماكن اكتظاظاً بالبشر، والمنغلقة بين الصحراء والبحر، هي بالنسبة لمن يخططون لصفقة القرن، المدخل لتسوية الوضع الفلسطيني بأكمله. لهذا ولد الاهتمام المفاجئ بمأساة غزة في البيت الأبيض وفي إسرائيل.
البيت الأبيض عقد حلقة بحث بعنوان «إنهاء الوضع المأساوي في غزة»، وفي الوقت ذاته عقد مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر اجتماعاً تحت العنوان نفسه. 
ولوحظ خلال الأشهر القليلة الماضية، أن المبعوث الأميركي لعملية السلام جيسون غرينبلات، ضاعف من اهتماماته بغزة، سواء بالوقوف على الحدود إلى جانب الضباط الإسرائيليين، والإكثار من التصريحات التي يظهر فيها غرينبلات قلقاً متنامياً من انهيار الوضع الإنساني في غزة، بما يتطلب إجراءات عاجلة لتسوية الأوضاع هناك. ومن أجل ألا تشعر السلطة في رام الله بالعزلة والتهميش، فقد أعلن المبعوث الأميركي أن الترتيبات المقترحة لغزة، ينبغي أن تتم بالتشاور مع السلطة الشرعية في رام الله.
بعد عطلة العيد مباشرة، سيصل فريق صفقة القرن إلى المنطقة، وسيقضي خمسة أيام في لقاءات مع الدول العربية المؤثرة بقوة في الوضع الفلسطيني، وبالطبع لن يلتقي الوفد الأميركي بالفلسطينيين بحكم القطيعة القائمة الآن، والتي طورتها بعض التصريحات الأميركية إلى حرب باردة، وجهت فيها إنذاراً قُرئ من بين سطوره أن هنالك حاجة لتغيير القيادة الفلسطينية، وكان مدروساً بعناية الاختزال الذكي لصائب عريقات، الذي كما قال غرينبلات يعبر عن سياسة تضر بمصالح الشعب الفلسطيني، وتغلق احتمالات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لماذا غزة؟
لنحاول الإجابة بافتراض أن تفاهماً إسرائيلياً حمساوياً تم مباشرة أو عبر طرف ثالث، يتم بمقتضاه تطبيق سيناريو إسرائيل كاتس، الذي من شأنه إخراج غزة من الحالة المزرية التي هي فيها الآن، إلى حالة مغايرة تماماً، ينتهي فيها القتل والدمار ويرفع فيها الحصار، ويسمح لآلاف العمال من غزة بالعمل في إسرائيل، بأجور تبدو بالمقارنة مع الوضع الراهن فوق الخيالية، وتسمح إسرائيل بإقامة محطات عملاقة لتحلية المياه، مع جزيرة صناعية يقام عليها ميناء ومطار، وقد يكون هنالك شيء مماثل في سيناء، لو تم ذلك، وإسرائيل تدرس هذا الأمر، وشروطها لتحقيقه لم تعد تعجيزية كما كانت في السابق؛ بل يريدون إنهاء ملف المحتجزين الإسرائيليين في غزة، وتحييد السلاح الحمساوي بدل نزعه، والتخلي عن شرط أن يتم ذلك كله مع حكومة رام الله، حين يتم ذلك سيتم معه التحول في المعادلة القديمة.
غزة الجديدة هي الأساس، وما تتخلى عنه إسرائيل في الضفة هو الملحق.
تسريبات أميركية كثيرة أشارت إلى هذا الاحتمال، ليس بالإفصاح عن تقوية مكانة غزة، وإنما بإضعاف الوضع في الضفة، وذلك من خلال تصفية قضية القدس، والإجراءات الأميركية الإسرائيلية في هذا الاتجاه تمضي متسارعة وبلا هوادة، ثم إغلاق احتمال أي سيادة جدية على الضفة بعد اقتطاع غور الأردن، وتثبيت السيطرة الأمنية الإسرائيلية من النهر إلى البحر، مثلما تعهد بذلك بنيامين نتنياهو، ولا توجد قوة إسرائيلية جدية تعارض هذا التوجه.
هذا تحليل يقوم على استنتاج كيفية توظيف غزة في اللعبة الأميركية الكبرى... صفقة القرن، ولو ظل الوضع الفلسطيني الداخلي على حاله، فما كان فيما مضى يبدو مستحيلاً سيصبح ممكناً؛ بل ربما هو الممكن الوحيد.