عبدالرحمن الشبيلي 

يُعدّ - وقد أدرك التسعين - من القلائل الذين عاشوا ثلاثين سنة في عهد الملك المؤسس عبد العزيز، وعمل عشراً منها في ديوانه، وعاصر عهود الملوك الخمسة من بعده، وارتبط بمعرفة وثيقة مع الملك سلمان، وكان خلال مسيرته العملية الخمسينيّة منذ الأربعينات شاهداً على مجمل الأحداث العربية المعاصرة، بدءاً باحتلال فلسطين، ومروراً بالعدوان الثلاثي وحرب الأيام الستة وحريق المسجد الأقصى، ثم حرب رمضان المبارك (أكتوبر) وما أتى بعدها من أحداث.

أبو سامي، لقبٌ اشتهر به عند أقرانه وأقربائه، عرَف عن قُرب مستشارين سياسيين عرباً عاشوا فترة تأسيس السعودية، كفؤاد حمزة ويوسف ياسين ورشدي مَلحَس ورشاد فرعون، ومؤرّخين غربيين أقاموا ضيوفاً كفيلبي، وعاصر جيلاً متقدّماً من رجالات وزارة الخارجيّة كعمر السقّاف ومحمد إبراهيم مسعود وطاهر رضوان، ودبلوماسيين أوائل كحافظ وهبة وحمزة غوث وعبد العزيز الكحيمي وعبد العزيز بن زيد وعبد العزيز الصقير وإبراهيم السويّل وعبد الله الخيّال ومحمد عبد الله علي رضا وجميل الحجيلان وعبد الرحمن العمران وعبد الرحمن أبا الخيل وعبد الرحمن البسّام ومحمد العبيكان وخالد الناصر التركي ومحمد المنصور الرميح، وجايل روّاداً مسؤولين كعبد الله السليمان ومحمد بن دغيثر وإبراهيم السليمان العقيل وعبد الله بن عثمان ومحمد النويصر وصالح العبّاد.
كان يمكن لكاتب هذا المقال المهتمّ بسيرهم وتراجمهم، أن يستفيد من أرشيف الراحل الكريم عن كل هؤلاء وغيرهم، لكنه - مع الأسف - رحل عن هذه الدنيا ولم يجالسه بما فيه الكفاية بسبب اختلاف مكان الإقامة، بل إن الفقيد نفسه، لم يدوّن ذكرياته معهم وعنهم، ولم يترك شيئاً لسيرته الذاتيّة، ما لم يكن أودعها ضمن مقتنيات وثائقه الخاصة عند ذرّيته.
اختارته «الشرق الأوسط» مبكّراً لنشر سلسلة مقالات تحليليّة كل يوم اثنين، على مدى 10 سنوات (1982 - 1991) كتب خلالها 350 مقالاً عن القضايا العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة، وظّف فيها خبراته السياسية المتراكمة، حتى أعياه البوح عن الاستمرار فتوقّف، والمأمول أن تعمل الصحيفة على جمع مقالاته وإصدارها في كتاب تعبيراً عن تقدير تعاونه وتوثيق مضمونها، حيث لم يورد كتيّباه «الرؤية والتحوّل» و«الكلمة العربيّة» سوى جزءٍ يسير منها.
ولو قدّر لأبي سامي - بما تميّز به قلمه الرشيق المتَدَفّق وفكره المستنير مع براعة الأسلوب، وحذق الكلمة والعبارة، والرأي النقدي المتوقّد، والرؤية الواضحة - أن يكتب مذكّراته أو يُدلي بها إلى واحدة من القنوات الرصينة، فيما يتّصل بقضيّة فلسطين وتحوّلاتها ورموزها وخباياها، وعن الأوضاع في بلاد الشام، فلربما كانت شهادته على العصر - بصراحته وشفافيته المعهودتين - ذخيرة توثيق مهمّة، لأنه عاصر الأحداث وخالط الرجال وعرف الدواخل والأسرار، وغاص في الوثائق، فشكّل رحيله بالأمس خسارة كبيرة، فقدت بغيابه مراكز التوثيق كنزاً لا يعوّض في قيمته، وكان يمكن لشهادته أن تصبح «وثيقة» نفيسة ومرجعاً في التاريخ السياسي المعاصر للسعودية وللعلاقات العربيّة - العربيّة.
مرّة أخرى، يشعر كاتب هذا المقال شخصيّاً، أنه خسر بفقده مصدراً مهماً من المعلومات، كان يمكن أن يفوز بها، من خلال قربه منه ومن أبناء عمومة آخرين عاصروا بواكير تأسيس الكيان، كذائع الصيت محمد الحمد الشبيلي، السفير في العراق وباكستان والهند وأفغانستان وماليزيا (ت 1988) ورفيق صباه محمد العبد الرحمن الشبيلي «خازن أرشيف» الشعبة السياسيّة في الديوان الملكي لستة عقود (منذ إنشائها في نحو عام 1929 وحتى وفاته 1996).
الراحل الكريم من مواليد عُنيزة في منطقة القصيم (1928)، توفّيت والدته منيرة عبد الله الخالد السليم في شبابها وكان وحيدها، فرعاه جدّه لأمّه (أمير عنيزة آنذاك) وتلقّى تعليمه الأوّلي في كُتّاب الأستاذ صالح الصالح، وفي أول مدرسة نظامية (العزيزية) بعد إحداثها (1936) بإدارة المربّيين صالح وعبد المحسن الصالح، ثم التحق بمدرسة الأمراء بالرياض، قرب والده أحد قدامى موظفي الديوان الملكي، وتوظّف الابن، وهو يافع، في وظيفة والده بعد وفاته (1944).


انتقل إلى العمل الدبلوماسي (1950) فتدرّج في سفارات دمشق والقاهرة وعمّان وبيروت، ثم عاد إلى جدة مديراً للإدارة العربيّة والخليج بوزارة الخارجيّة، وشارك في المؤتمرات العربية والإسلامية، حاز وسام الملك عبد العزيز (1978) وعدداً من الأوسمة العربية.
عشِق القدس؛ حرَماً وبلدة وناساً، وأوسعها تَيْماً ووفاءً، واستقر فيها قنصلاً بضع سنوات، فلما اقتحمها جيش الاحتلال الصهيوني (1967) اضطرّ لغلق القنصليّة السعودية بالأقفال مخلّفاً فيها وثائق رسميّة وأُسريّة مهمّة، وعندما اختار الإقامة الدائمة في جدة سعى لتسمية الحديقة المجاورة لمنزله باسم القدس، وقد قدّر لكاتب هذا المقال برفقته أن يزور المسجد الأقصى وقبّة الصخرة وبيت لحم (1960 عندما كانت تحت الإدارة الأردنيّة) فكانت زيارة لا تمّحي من الذاكرة.
في العقود الأربعة الأخيرة من حياته التي فضّل فيها جدة لإقامته، بقي على علاقة وثيقة مع أصدقائه أمثال؛ محمد المُرشد الزغيبي وزيد بن محمد الأحمد السديري، والشاعر الملحمي عبد الله بلخير، الذي أطلق عليه أبو سامي لقب «شاعر الأمّة» فعلِق اللقب به.
كان مضرب المثل في دقّة مواعيده، وفي ممارسة المشي، والمحافظة على الصحة، وخلّف الأبناء سامي وسمير وطارق ونزار ووالدتهم منيرة عبد الرحمن المحيميدي، أما أختاه الوحيدتان (حصة ونورة) فسبقتاه إلى الدار الآخرة قبل ثلاثة أعوام.
إنه وأمثاله، خزائن تاريخ ثريّة لأزمنة العهود الفائتة، تُفلت في غفلة من الزمن من أذرعة التوثيق.