إميل أمين 

نهار الثلاثاء الماضي، كانت المملكة العربية السعودية تعلنها صريحة مريحة، عالية مدوية... لا لقانون القومية اليهودية، والبيان الذي صدر عن مجلس الوزراء المنعقد برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يحمل رفضاً مؤكداً من المملكة لقانون يتعارض مع مبادئ الشرعية الدولية، والمبادئ السامية لحقوق الإنسان، عطفاً على أحكام القانون الدولي.


الرفض السعودي للقرار الذي يُوصَف بأنه عنصري وتمييزي بالمطلق، يُعدّ في واقع الحال خطوة مضافة ضمن خطوات المملكة للدفاع عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية، وموقفاً أخلاقياً في مواجهة الارتكاسات الإسرائيلية المتلاحقة، وسبل تسويف الوقت لإضاعة أي فرصة لإحلال السلام وتعطيل الجهود الدولية الهادفة إلى إيجاد حل سلمي للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.
ما الذي ينص عليه القانون الإسرائيلي الجديد وما الذي يبتغي؟
يعرِّف القانون الجديد إسرائيل بأنها دولة قومية للشعب اليهودي، وينصّ على أن حق تقرير المصير خالص لهم دون غيرهم، وفي القلب من هذا القانون العنصري يتكرّس الاحتلال للقدس التي يعرفها النص بأنها «مدينة كاملة وموحدة... عاصمة لإسرائيل».
صُنَّاع القانون من أعضاء الكنيست يدركون أن اللغة عمود فقري لحضارة الأمم والشعوب، ولهذا حرصوا على أن تكون «العبرية» هي لغة الدولة الأساسية، الأمر الذي يهمش مكانة اللغة العربية التي دامت قرابة الألفي عام لغة أهل البلاد من الفلسطينيين.
شرع نواب الكنيست قانونَ يهوديةِ الدولة كنوع من أنواع الهروب إلى الأمام، وكردة فعل للخوف المسيطر عليهم، فقد فضلوا الحياة على «حد السيف» إلى الأبد، ونزعوا عنهم أي توافق يسعى لسلام حقيقي وتعايش خلاق مع الجيران من العرب والمسلمين، سواء في الداخل المحلي أو في السياق الجغرافي الإقليمي الأوسع والأرحب.
ما لم يقله مشرعو دولة إسرائيل الذين وضعوا لبنات القانون هو أن خوفهم القاتل من «الرحم الفلسطيني» الذي يتحدى أحدث أنواع «الميركافا» الإسرائيلية، وما بات يخشى الـF35، هو السبب الرئيسي؛ فالمخاوف من معدلات الولادة والنمو الديموغرافي للفلسطينيين بات الهاجس الذي يزعج الغالبية العددية اليهودية اليوم، تلك التي لم تفلح رغم كل محاولات التهويد في إفراغ فلسطين من أبنائها أصحاب الحق في الأرض.
القانون الجديد مقدمة مهلكة لأصولية إسرائيلية قتالة مقبلة لا محالة، وأول من سيكتوي بناره اليهود أنفسهم في الداخل، وقطاع كبير منهم اليوم بات يرفض فكرة الدولة المدنية، وينادي باعتبار التوراة هي الحكم والفيصل، والعودة إلى الحكم بشريعتها أمر واجب، وأسوأ مثال على هذا الطرح ما تشيعه جماعة «لهفاه» المتطرفة في الداخل الإسرائيلي.
في اللحظات الأخيرة وقبل صدور القانون أسقطت عدة بنود تمثل الأصولية في أعلى درجاتها المتطرفة، فقد كانت هناك بنود تنص على إقامة مجتمعات لليهود دون غيرهم، ولا يسمح للعرب بالسكنى فيها، وأخرى تلزم القضاء بالاحتكام للشرع اليهودي عندما لا تكون هناك سابقة قانونية ذات صلة، إلا أن اعتراضات رئيس إسرائيل والنائب العام قد أسقطتها، وإن كان لا أحد يضمن إلحاق أو تضمين مثل هذه الأفكار في قوانين مقبلة على المنوال العنصري ذاته الذي يجعل من إسرائيل دولة «أبارتهايد» معاصرة.
أحد أهم الأسئلة التي طرحتها الصحافة العالمية، خصوصاً الأميركية، بعد إقرار القانون تمثل في التالي: «هل زرعت إسرائيل بذور التدمير الذاتي بقانون القومية اليهودية»؟
في أعقاب حرب الأيام الستة كان ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل يصيح خوفاً وهلعاً في مواجهة الجنرالات المهللين للانتصارات العسكرية: «هل تريدون الحياة إلى الأبد على حد السيف؟». لم يكن أشكول وحده مَن راعه المشهد، بل استدعى الهول الأكبر عودة بن غوريون مؤسس الدولة العبرية من تقاعده وعزلته إلى الحياة العامة، والحديث علانية عن أن الانتصارات العسكرية تحمل بذور التدمير الذاتي.
كانت رؤية «أسد إسرائيل» كما كانوا يطلقون عليه هي أن الاحتلال شوَّه الدولة الناشئة التي تأسست لحماية ليس فقط الشعب اليهودي، وإنما قيم الديمقراطية والتعددية، بحسب ما ادعاه.
مثير جداً شأن هذا القانون؛ فقد شق الروح اليهودية ما بين الداخل والخارج، وعوضاً عن أن يكون أداة للتجميع أضحى آلية لانقسام اليهود حول العالم، لا سيما الليبراليين منهم خارج إسرائيل.
خذ إليك البيان الذي أصدره ريك جاكوبس رئيس اتحاد إصلاح اليهود في الولايات المتحدة وجاء فيه: «سوف يلحق قانون الدولة القومية ضرراً هائلاً بشرعية الرؤية الصهيونية»، أما منظمة «جي ستريت»، التي تمثِّل الجناح المنشق عن «أيباك»، فقد وصفت يوم المصادقة على القانون بأنه «يوم حزين بالنسبة لإسرائيل ولكل من يهتمون بديمقراطيتها ومستقبلها».
والشاهد أن الداخل الإسرائيلي لم يكن أقل من الخارج عند بعض الشهود العدول، لا جماعات الزور، ومن بين هؤلاء البروفسور مردخاي كرمنيتسر رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، الذي أجهش بالبكاء في حوار إذاعي معه على هامش النقاشات الدائرة بعد أن وصف القانون بأنه «وصمة عار على جبين دولة إسرائيل، وأنه يشعر بالخجل هذه الأيام أمام الأقليات في إسرائيل».
رويداً رويداً تفقد إسرائيل مناصريها حول العالم، خصوصاً في الداخل البريطاني، وعلى غير المصدق مراجعة المقال الذي سطره عازف البيانو والمؤلف والناشط اليهودي الديانة دانيال بيرنباوم المعروف بمواقفه الرافضة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
مقال الرجل عبر «الغارديان» البريطانية، شهادة غير مجروحة ضد إسرائيل حيث يقول: «يشعرني القانون الجديد بحزن عميق ويدفعني لطرح ذات التساؤلات التي قدمتها قبل 14 عاماً أمام الكنيست: هل بمقدورنا تجاهل فجوة التعصب التي تفصل ما بين ما وعد به بيان الاستقلال وممارسات إسرائيل الحالية على أرض الواقع؟!».
عودة إلى موقف المملكة، نقول: حل أزمات إسرائيل كائن وقائم أمام أعينها في المبادرة العربية للسلام التي طرحها الملك (الأمير وقتها وولي العهد) عبد الله بن عبد العزيز (رحمه الله)، في القمة العربية ببيروت عام 2002، هذا هو طوق النجاة الوحيد لإسرائيل، لكنها تفضل الغرق في لجة الكراهية وبحار العنصرية.
مرة جديدة يضحى التنادي من أجل فلسطين لا عربيّاً ولا إسلامياً أو مسيحياً فحسب، بل تنادٍ يستهدف أصحاب الضمائر الإنسانية حول العالم، ورافضي عنصرية تجاوزها الزمن وتمييز عرقي لم يعد له وجود، وفي هذا خسارة إسرائيل التاريخية لا مكسبها القومي.