&عبدالله ناصر العتيبي&

أود فقط قبل أن أذهب بعيداً في هذه المقالة، أن أذكّر القارئ الكريم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان أعلن انسحاب قواته مرتين من سورية خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي أحد هذين الإعلانين لم يكتف بوتين بالرسائل الكلامية وما يلحق بها من نتائج، بل تجاوز ذلك إلى إقامة حفل مهيب في موسكو لتكريم جنرالاته وجنوده «المنسحبين» من سورية!

سحب بوتين قواته مرتين من سورية. ومن يعلم، فلربما يسحبها مرة ثالثة ورابعة وخامسة، مفسحاً المجال لانسحاب سادس وسابع وثامن، على أمل أن تكون الأوضاع في سورية أكثر هدوءا عندما يقرر الانسحاب للمرة التاسعة!

دونالد ترامب من ناحيته أعلن قبل أيام انسحاب القوات الأميركية للمرة الأولى من سورية، لكن بدلاً من أن تنساب «كلمات القرار» إلى الداخل الأميركي بنعومة وسهولة، تطايرت في الفضاء العالمي، وأحدثت ضجة دولية كبيرة، دفعت الرئيس ترامب إلى إضفاء «تحديثات» متتالية على إعلانه الأول في توضيحات لاحقة.&

بوتين هو بطريقة أو بأخرى وزير الدفاع والخارجية والأمن الوطني في روسيا. وربما هو أيضاً وزير الزراعة والخدمة الاجتماعية، لذلك لم يكن من المتوقع أن يستقيل أيٌ من وزرائه احتجاجاً على قرارات الانسحاب. كما أنه عندما انسحب للمرة الأولى والثانية لم يتعمد أن يثير الرأي العالمي، إذ تحدث بصوت خفيض وكلمات لا تكاد تسمع للمجتمع الدولي! همس الرجل في إذن العالم قائلاً إنه سيخرج من سورية، والتفت إلى مواطنيه وصاح فيهم بصوت عال جداً: أنا عائد إلى بلادي.

بوتين كان كثير الانسحاب من سورية، من أجل تخفيف الضغوط الداخلية التي كانت ترى أنه من المخزي أن يموت الشبان الروس خارج حدود بلادهم في قضية لا تعني الشعب الروسي من قريب أو بعيد. كما أنه كان كثير الانسحاب كذلك، بسبب بعض الأصوات الداخلية التي كانت ترفع صوتها اعتراضاً على تبديد الميزانية العامة للبلاد في حرب لا حاجة للأمة الروسية بها.

كان بوتين كثير الانسحاب وكثير التأكيد على أن تكاليف وجود قواته في سورية هي من ضمن مصروفات موازنة وزارة الدفاع المتفق عليها مسبقاً، وليست مصروفات طارئة اقتطعتها الحاجة العسكرية من حاجات مدنية أكثر أهمية وقرباً للمواطن.

بوتين كان كثير الانسحاب ليرضى الداخل فقط، ومن حسن حظه خلال المرات الماضية أن الصدى العالمي لانسحاباته لم يكن بالقدر الذي يستدعي تحديثات وتوضيحات متتالية منه.

ترامب أيضاً أعلن انسحابه خلال الفترة القصيرة الماضية ليضمن الحصول على دعم أصوات في الداخل الأميركي تساعده في أمرين: عبور أزمته الحالية مع الديموقراطيين، وإعادة انتخابه في الجولة المقبلة من انتخابات الرئاسة الأميركية ٢٠٢٠.

مصطلحات مثل «إعادة الأبناء إلى الديار» و«لسنا مسؤولين عن حماية الآخرين» و«لتتولى الدول الغنية ذلك» و«أميركا أولاً» تضرب، في العادة، وتراً حساساً جداً في وجدان المواطن الأميركي وتجعله يشعر ولو «لوهلة انتخابية» أن إعادة أميركا إلى أميركا هي القرار الصحيح الذي كان غائباً عن ذهن الكثير من الرؤساء الأميركيين السابقين.

ترامب أعلن انسحاب القوات الأميركية وهو لا ينوي القيام بذلك، أو ربما ينوي ذلك لكن ليس بالمعنى التقني للكلمة. ترامب سعى بإعلان انسحابه إلى نفس الهدف الذي جعل من بوتين «منسحباً كبيراً وكثيراً»، لكن مشكلة الرجل وعلى خلاف بوتين أنه يخلط كثيراً بين «حقائق» عدد التعليقات التي تأتي رداً على تغريداته في تويتر، والنوايا التي من المفروض أن يناقشها مع وزرائه ومستشاريه.

مشكلة الرجل أنه لا يعمل ضمن فريق عمل متناغم ومتفاهم، ومن هنا جاءت استقالة وزير الدفاع «جيمس ماتيس». المغرد الكبير دونالد ترامب ينظر من خارج الدائرة فيرى: رئيساً عنيداً اسمه ترامب في دائرة لوحدة، وبجانبها دائرة أخرى فيها خصوم وأصدقاء واسمها الحكومة الفيديرالية، ثم دائرة ثالثة تصطف بجانب هاتين الدائرتين تضم الأعداء الديموقراطيين والأعداء الإعلاميين، ثم أخيراً هناك الدائرة الكبيرة التي تُحيط بجماهير برامج الواقع التلفزيونية والذين يسمون أحياناً الشعب!

يتحدث الرئيس في دائرته، وينوي فعل ما يقول أحياناً، وعدم الفعل في أحايين أخر، لكنه يتجاوز الدائرتين القريبتين منه إلى دائرة برامج الوقائع بجماهيرها الغفيرة، وهذا ما يجعله في عدم اتفاق دائم مع خصومه وأعضاء حكومته على حد سواء!

الأيام المقبلة ستكشف حقيقة ونوايا إعلان ترامب الانسحاب من سورية، والذي ربما لن يكون الوحيد، لكن على أية حال، سيكون الوقت متأخراً جداً لوزير الدفاع «ماتيس» عندما يفهم حقيقة الدوائر الأربع والنوايا التي تتأخر عادة في الوصول بسبب صعوبة الانتقال من دائرة إلى أخرى.