محمد سيد رصاص

يحيل دونالد ترامب على التعاقد الكثير من الكتابات التي أسيل الحبر فيها منذ تسعينيات القرن الماضي حول (العولمة) واتجاه واشنطن لعولمة العالم أميركياً. هو يطرح فكرة (القومية الاقتصادية) من أجل إعادة الشركات الأميركية المستثمرة في العالم للأرض الأميركية، مع تزنير للولايات المتحدة بقوانين حماية جمركية ضد البضائع الأجنبية التي يمكن أن تنافس البضائع الأميركية، كماألغى التواقيع الأميركية على اتفاق المناخ وعلى اتفاق التجارة الحرة في منطقة الباسفيك، وسعى إلى تعديل (اتفاق نافتا) مع كندا والمكسيك، ويسعى لتقييد حرية الهجرة لبلد انبنى على المهاجرين. ترامب ضد حلف الأطلسي أوليس مثل أسلافه في البيت الأبيض الذين رعوا وقادوا هذا الحلف منذ قيامه عام 1949، وهو مع اغلاق القواعد العسكرية الأميركية أوالتواجد العسكري الأميركي في أفغانستان وسورية وكوريا الجنوبية. نظرته المتغاضية عن الوجود العسكري الأميركي في العراق تنبني على نظرته العدائية لايران ونظرته للأخيرة مبنية على رؤيته للتناقض الرئيسي الأميركي باعتبار النمو الصيني هو الخطر والمنافس الرئيسي للعملاق الأميركي، وهو يرى ايران ممراً للصين، عبر باكستان، إلى الشرق الأوسط، لذلك يسعى للتحالف الأميركي مع الهند من أجل تطويق الصين، وهو يخالف البنتاغون في اعتبار الصين وروسيا عدوين استراتيجيين للولايات المتحدة، بل يرى الروس عاملاً مساعداً وحليفاً محتملاً ضد الصين، في اتجاه أميركي تبلور في واشنطن منذ أواسط التسعينيات وبعد قليل من هزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة باعتبار الصينيين الخطر الرئيسي على واشنطن، ويتفق ترامب مع باراك أوباما على أن انشغالات (ما بعد 11 سبتمبر 2001) في أفغانستان والعراق هي انحراف عن الطريق الرئيسي يجب التخلص منه، وأن الشرق الأوسط قد فقد أهميته مع انتهاء الحرب الباردة وهزيمة السوفيات (زائد اكتشاف النفط الصخري) لصالح الشرق الأقصى الذي يتحول تدريجياً نحو امتلاك الثقل الاقتصادي العالمي لأول مرة بعد أن كان هذا الثقل منذ الرومان في البحر المتوسط ثم انتقل في القرن السادس عشر للمحيط الأطلسي إلى انكلترا بعد هزيمة 1588 للاسبان في معركة الأرمادا ثم الولايات المتحدة منذ ثلاثينات القرن العشرين.

الجديد هنا في ترامب أنه يأتي من خارج النخب التقليدية الحاكمة في واشنطن، التي أتت أولاً من الساحل الشرقي، ثم منذ عهد رونالد ريغان في الثمانينات من الساحل الغربي ومن ولاية تكساس. صحيح أن ترامب من مواليد نيويورك وثروته المالية انبنت هناك، ولكن قاعدته الانتخابية الرئيسية قد أتت من الوسط الداخلي الأميركي أثناء فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2016 وأصعده وهو الثري الأميركي فقراء ولايات الداخل وفئات وسطى بدأت تحس بهبوط قدراتها الشرائية وعمال بيض يشعرون بمنافسة اليد العاملة المهاجرة الملونة من أميركا اللاتينية، فيما صوتت الولايات الأميركية الأكثر ثراءاً في الساحلين الشرقي والغربي لهيلاري كلينتون ذات التوجه الليبرالي وشارك في هذا يساريون رأوا وحدة حال ضد اليميني ترامب مع صناعيين ومصرفيين ورجال أعمال أغلب استثماراتهم وأعمالهم في الصين والهند وأوروبة. عندما ألقى ترامب خطاب دخوله البيت الأبيض بيوم 20 كانون ثاني (يناير) 2017 كانت نبرته عدائية لمن هم تقليدياً في واشنطن، وبالتأكيد فإن نبرة صحيفتي الواشنطن بوست والنيويورك تايمز تعكسان نفوراً عميقاً من الظاهرة الترامبية لايقتصر على مثقفي واشنطن ونيويورك وصحفييها بل يشمل ذلك الكثيرين في المؤسسة الحكومية المركزية الأميركية وفي مجلسي الكونغرس.

من الضروري في هذا المجال تفسير دونالد ترامب : يمثل الرئيس الأميركي اتجاهاً يمينياً جديداً هو في ثورة مضادة أميركية ضد «العولمة» التي سعى لها يمينيون، مثل «المحافظون الجدد» الذين برزوا في الولاية الأولى لجورج بوش الابن وبالذات إثر (11 سبتمبر) في غزوتي أفغانستان والعراق، من أجل «إعادة صياغة العالم أميركياً» عبر نموذجي «الديمقراطية» و«اقتصاد السوق»، ورأوا في الجيوش الأميركية مارآه ليون تروتسكي، وهم تروتسكيون سابقون تحولوا لليمين بتأثير أستاذ الفلسفة بجامعة شيكاغو ليوشتراوس (توفي عام 1973)، في الجيش الأحمر و«الثورة الدائمة لنشر الاشتراكية». يشبه ترامب هنا اليمين الفرنسي الجديد بقيادة جان ماري لوبان وابنته ضد الأوربة وضد اليورو الذي وصفته مارين لوبن كـ«خنجر في خاصرة فرنسة». في الستينيات والسبعينيات كان الشيوعيون ضد «السوق الأوروبية المشتركة» فيما كان الليبراليون والاشتراكيون الديمقراطيون والديمقراطيون المسيحيون والديغوليون في الخندق المضاد في عموم دول أوروبة الغربية.

كان المحافظون اليمينيون البريطانيون استثناءاً ولوأن من أدخل لندن للجماعة الأوروبية كان إدوارد هيث من حزب المحافظين بالنصف الأول بالسبعينيات، وقد أبرزت عملية «بريكزيت» منذ عام 2016 مدى قوة الاتجاه المحافظ البريطاني ضد الارتباط مع الأوروبيين. اليمين الجديد في أوروبة ضد «الاتحاد الأوروبي» وفي الضفة الثانية من الأطلسي هو ضد «العولمة» وضد المصرفي في نيويورك أوفي كاليفورنية حيث استثماراتهما في شنغهاي ومومباي أكثر من الداخل الأميركي في نبراسكا وكولورادو. عند ترامب هناك "جنرال أميركي"أقوى من الجيوش هو الدولار من أجل الهيمنة الأميركية على العالم ولاداعي لارسال الجندي الأميركي لخارج الحدود. يبدو ترامب في هذا المجال، من خلال قراره بسحب القوات الأميركية من سورية الصادر في يوم 19كانون أول (ديسمبر) 2018، وقد سجل انتصاراً غير مسبوق للبيت الأبيض على وزارة الدفاع (البنتاغون)، وهو مالم يستطعه أوباما الذي أفشل البنتاغون اتفاقات وزير خارجيته كيري مع الوزير الروسي لافروف بشأن التعاون العسكري – الأمني في سورية، كما أن أوباما قد هزم أمام البنتاغون في خططه لسحب القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان المعلنة منذ عام دخوله البيت الأبيض في2009.

بعد أن تعايش معه لسنة وشهرين كوزير خارجية، قال ريكس تيلرسون، وهو الآتي من رجال أعمال ولاية تكساس في قطاع الطاقة قبل أن يتولى منصب المدير التنفيذي لشركة «إكسون موبيل» بين عامي 2006 و2016 وهي سادس شركة من حيث العائدات بالعالم، العبارة التالية عن دونالد ترامب: «من الخطر أن يجلس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض رجل يفكر بذهنية تاجر عقارات؟...» السؤال الرئيسي أميركياً، الآن: هل ستثبت الوقائع القادمة صحة كلام تيلرسون، أم العكس؟

* كاتب سوري.