&عمار علي حسن

تحتاج المجتمعات البشرية دوماً إلى من يفحصها بعين خبيرة بصيرة، ليقف على التحديات التي تعترض طريقها، ويتبين الفرص التي تلوح لها، ويسهم في رسم معالم خطواتها القادمة، كصاحب رأي، يستنار به من قبل أصحاب القرار، الذين يجب أن يؤمنوا بدور العلم والمعرفة في تقدم الأمم، ويدركوا أهمية تطوير رؤيتهم دون توقف لتواكب ما يستجد، وما يطرأ، وما تفرضه ظروف متغيرة، في عالم تتدفق فيه المعلومات والأفكار والأحوال والمواقف والأهداف والخطط بلا هوادة.
ربما لهذا السبب، أو لغيره، رأى الكاتب وأستاذ العلوم السياسية ومدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، أنه من المفيد أن يضيف جديداً ومختلفاً إلى بحث صغير مهم نشره قبل خمسة عشر عاماً تحت عنوان «مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة.. نظرة مستقبلية»، وذلك عبر تحديث معلوماته وبياناته، وتعميق مجراه، وتوسعة ضفافه، ليصبح كتاباً كاملاً يحتفظ بعنوانه الرئيسي، ويُضاف إليه عنوانان فرعيان دالان هما: «في القرن الحادي والعشرين» و«قضايا وتحديات في عالم متغير»، ما يعني إدراك الكاتب أن مياهاً غزيرة قد جرت في النهر خلال عقد ونصف من الزمن، تضاعفت فيها المعارف والمعلومات، بفعل ثورة الاتصالات، وتقدمت فيها التقنيات، وتوالت التحديات، وتبدل الكثير من الاهتمامات والاحتياجات، وانتقلت دولة الإمارات نفسها من مرحلة «التأسيس» إلى «التمكين» فاتسعت إرجاء المدن، وصارت الحكومة إلكترونية، وتغيرت بعض التوجهات والسياسات بفعل عوامل عديدة فرضتها الظروف أو ارتآها متخذو القرار.&


وقد أخذ الكاتب هذه الأمور في الاعتبار، فناقش أثر تجربة الاتحاد على المجتمع الإماراتي، وملامح تكوين «الهوية الوطنية» ومصادر تهديدها، وسبل ترسيخ الاستقرار عبر التنمية السياسية المتوازنة، متخذاً من كل هذا نقطة مركزية للانطلاق، تصل به إلى إطار أشمل يرى فيه هذا المجتمع في ظل سياق دولي وإقليمي مختلف، ثم ينتقل من هذا المسار السياسي إلى الاقتصادي فيبين لنا طريق الإمارات إلى مرحلة ما بعد النفط من خلال قطعها شوطاً على درب التعامل مع اقتصاديات المعرفة، ثم فحص وسائل تعزيز قدرات الموارد البشرية عبر التعليم، وهي قضية يعطيها د. جمال الكثير من الاهتمام منذ انطلاق مركز الإمارات قبل ربع قرن، لأسباب عديدة أورد طرفاً منها في سيرته الذاتية التي نشرها قبل عامين تقريباً بعنوان «لا تستسلم».&


وكل المسارات والمجالات السابقة فرضت تحديات على المجتمع الإماراتي، كان على الكاتب أن يأتي على ذكرها وتحليلها بأسلوب علمي، غير متحرج من هذا، بل مؤمن بأن تشخيص الداء هو أول الطرق السليمة إلى وصف الدواء، ولذا يتناول المشكلات المتعلقة بالتركيبة السكانية وآثارها على الهوية الوطنية، والسلبيات التي ترشح عن التطور المتسارع في البيئة الإقليمية والدولية، والاستحقاقات المطلوبة للخروج من عصر النفط الذاهب إلى النضوب، وتنامي الأخطار المرتبطة بانتشار الفكر المتطرف والحركات الإرهابية، إلى جانب التحديات التي تستلزمها التنمية السياسية، والتي طالب بها الكاتب في الصيغة الأولية لبحثه التي ظهرت قبل خمسة عشر عاماً، ومنها التحول نحو الحياة المؤسسية التي تعمل على مراجعة السياسات العامة، وتضمن مساهمة المواطنين في إدارة المجتمع والعمل على تطويره، وتعمل على وجود نظام يقوم على المحاسبة الإدارية والشفافية، وتتغلب على التحكم البيروقراطي، وتدفع في اتجاه تحويل المجلس الوطني الاتحادي إلى مجلس منتخب كلياً أو جزئياً مع توسيع صلاحياته، وتعزيز دور المرأة، وترسيخ مفهوم المواطنة وارتباطه بحقوق ثابتة وواجبات محددة داخل المجتمع.&
ويقول الكاتب: «قدمت وصفاً لتنمية سياسية حقيقية، ليس في دولة الإمارات العربية المتحدة فقط، وإنما في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والمنطقة العربية أيضاً»، ثم يعرج على ما تم تحقيقه من هذه المطالب حتى الآن، وكذلك نهج الإمارات، الذي يقوم في نظره على عدة ركائز هي: الشمولية، والتدرج المحسوب، والخصوصية، والاستمرارية، وإعلاء مصالح المواطن.
وما كان يمكن للفصول السبعة التي انطوى عليها الكتاب، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أن تغلق أبوابها دون عرض وتشريح وتحليل الفرص المتاحة أمام المجتمع الإماراتي لتعزيز تماسكه، وصياغة هويته بما لا يفقده ميزة التنوع والتعدد، وإطلاق طاقاته الإنتاجية، ومواكبة التطور السريع في الاقتصاد الجديد، وتقديم نموذج اجتماعي ناجح عربياً ودولياً عبر التقدم في مؤشرات التنمية البشرية، وفي الوقت ذاته الاستعداد للمستقبل، الذي لم يعد النابهون ينتظرونه بل يصنعونه.&