& هالة مصطفى

&

فتح قرار الانسحاب الأمريكى من سوريا الباب واسعا أمام روسيا لتكريس نفوذها الذى بنته هناك على مدى السنوات الماضية, لتنفرد بالساحة ولتصبح القوة المهيمنة على مجريات الأمور, والمنوط بها وضع حد للحرب الأهلية والتوصل إلى تسوية سياسية نهائية بين أطراف الصراع, كانت قد بدأتها فى مؤتمرى آستانة وسوتشي, وإعادة الاستقرار إلى هذا البلد الذى شهد كل أنواع الحروب على أراضيه منذ ما يقرب من السنوات الثماني, وهذه ليست بالمهمة السهلة, فالحالة السورية لا تتلخص فى كونها أزمة داخلية، تنقسم بين نظام ومعارضة يسعيان لوضع دستور جديد يضعهما على أعتاب تحول ديمقراطي, ولكنها وبنفس القدر تُعد حربا إقليمية بامتياز, فأغلب القوى الكبيرة والمؤثرة فى الإقليم لها نصيب كبير فيها سواء بشكل مباشر أو بالوكالة وبالطبع لها أطماعها وأهدافها الخاصة التى تتضارب مع بعضها البعض, فسوريا نموذج صارخ للتنافس والصراع على النفوذ والسيطرة واقتسام الثروة والتوسع فى الأدوار الإقليمية, وهو ما يزيد من تعقيدها ويفرض تحديات لا يُستهان بها على أى دولة مهما تكن كبيرة, وحتى فى حال امتلاكها مقومات الهيمنة, لأن السؤال هو: هل ستكون هذه الهيمنة كاملة أم منقوصة؟ وهذا بالضبط ما قد يواجهه الدور الروسى فى الفترة المقبلة, ويمكن إيجاز تلك التحديات فى الآتي:

&أولا: إن انسحاب القوات الأمريكية لا يعنى بالضرورة انتهاء دور واشنطن التى ستظل قوة رئيسية فاعلة فى تسوية الأزمة, لأكثر من سبب, فحجم قواتها العسكرية المرابطة فى سوريا لم يكن بالضخامة التى تُحدث فارقا خطيرا، خاصة أن قواعدها التى تنفرد بها فى العراق الملاصق للحدود السورية يكفل لها القدرة على التدخل السريع مرة أخري, كما أنها مازالت تقود التحالف الدولى ضد تنظيم داعش فى هذين البلدين ما يوفر لها الغطاء السياسى لأى تدخل, ولها أيضا وكلاؤها المحليون والإقليميون فى سوريا, وربما يفسر هذا الواقع تضارب تصريحات الإدارة الأمريكية حول طبيعة قرار الانسحاب, والتى تعطى الانطباع بالشيء وعكسه فى الوقت نفسه, بعبارة أخرى يمكن فهم هذا القرار فى إطار تبادل ضمنى للمصالح بين واشنطن وموسكو بأكثر من كونه تخليا حقيقيا أو كاملا من الأولى عن دورها بحيث يخرجها من المعادلة.

ثانيا: كيفية التعامل والجمع بين كل من تركيا وإيران, وهما أهم قوتين إقليميتين لهما وجودهما العسكرى على أرض سوريا واللتين شكلتا مع روسيا تحالفا ثلاثيا فى الآونة الأخيرة, ولكنه تحالف قام على العداء للدور الأمريكي, الذى مثل هدفا مشتركا للجميع, بينما افتقد للأسس الراسخة التى توحد بين أطرافه وتقضى على التناقضات بينها, أى كان بمنزلة تحالف الضرورة, فأنقرة العضو فى الناتو, لم تلجأ اليه إلا للسماح لنفسها بمحاربة الأكراد وتعقبهم على حدودها مع الشمال السورى والذين تصفهم بالارهابيين, فى الوقت الذى تحالفت واشنطن معهم ودعمتهم كأهم عون لها فى محاربة الإرهاب, لذا لم يثن أنقرة عن الإسراع فى حملتها العسكرية ضدهم سوى تجديد الأخيرة التزامها بحمايتهم رغم قرار انسحابها.

والشيء نفسه ينطبق على طهران, بحكم عدائها التقليدى المعروف مع أمريكا والعقوبات الاقتصادية المضاعفة التى فرضها عليها ترامب, ولكن الأهم من كل ذلك أن لكل من الدولتين (تركيا وإيران) مشروعها الإقليمى التوسعى المناقض للآخر, وبالتالى لن تتنازل أى منهما عن حصتها فى النفوذ لا فى سوريا ولا فى غيرها, وستعتمد مهارة بوتين السياسية فى قيادته هذا التحالف على كيفية إدارة الصراع بينهما وصولا إلى نقطة توافق ترضى الاثنين وهو أمر مازال بعيدا.

ثالثا: وجود إسرائيل فى هذا السياق, فهى بمنزلة الغائب الحاضر, وتحديدا فيما يتعلق بالمواجهة مع إيران التى تعتبرها المهدد الأول لأمنها, ومطلبها الصريح الذى تؤيده وتدعمه أمريكا هو إخراجها من سوريا تأمينا للجولان المحتل وحتى لا تستنسخ حزب الله آخر سوريا على غرار مثيله اللبناني, وليس خافيا متانة العلاقات بين موسكو وتل أبيب والتى بمقتضاها تم إبعاد القوات الإيرانية برعاية روسية لمسافة مائة كم عن الحدود والتغاضى عن القصف والغارات الإسرائيلية عليها, فماذا سيكون الموقف لو تم التوسع فى مثل تلك العمليات العسكرية, بل وهل سيتمكن بوتين بمفرده من القضاء على الوجود الإيرانى النافذ, ليس فقط عسكريا ولكن أيضا فى مؤسسات ومفاصل الدولة السورية؟

رابعا: ما يختص بشكل التسوية السياسية المفترض أن تعيد بناء الدولة الوطنية وبسط سيادتها على كامل أراضيها, وهو ما يتطلب نزع سلاح جميع الميليشيات المسلحة بولاءاتها المتعددة أولا, قبل تحديد هوية الدولة وشكل نظامها السياسى الذى ربما رغبت روسيا فى أن يكون مدنيا علمانيا, فى الوقت الذى قد يسعى حليفاها التركى والإيرانى لصبغه بطابع يتفق مع مشاريعهما ذات التوجه الإسلامي, السنى من ناحية والشيعى من ناحية أخري, وهو ما سينعكس على المساحة التى ستحصل عليها القوى الوطنية السورية الموزعة بينهما وطريقة إدماجها فى العملية السياسية, بما قد يشبه فى النهاية نظام المحاصصة الطائفية فى لبنان, ولكن مشكلة هذه الصيغة أنها تحتاج إلى ضامن دولى وإقليمى مثلما حدث فى اتفاق الطائف الذى رعته السعودية ودعمته الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية.

خامسا: إعادة إعمار سوريا, وهى بدورها قضية من شأنها أن تستحضر كل أسباب التنافس بين الدول صاحبة المصلحة والشركات الكبرى التابعة لها فيما يشبه الحروب الاقتصادية للفوز بالعقود الاستثمارية, فهناك أمريكا وأوروبا وكذلك البلدان الخليجية وفى مقدمتها السعودية والإمارات التى استأنفت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق, أما روسيا فنظرا لظروفها الداخلية الضاغطة فقد تأتى فى ذيل القائمة، أى لن تمتلك نفس القدرة المالية مقارنة بالأطراف الأخرى وهو ما يعتبر خصما من رصيدها السياسى.

هذه بعض التحديات التى ستواجهها روسيا فى سوريا بعد انفرادها بالساحة والتى تستوجب مواجهتها وبالتبعية مواجهة الصراعات الإقليمية المصاحبة لها.