&ماجد الشّيخ&

يتدحرج الوضع الوطني الفلسطيني سريعا نحو مأزق من الفوضى، دون أن يجد عاقلا أو عقلاء يلجمون انحداره نحو المزيد من التدهور والانحطاط، فيما النظام السياسي الفلسطيني ينكفىء على عقبيه، وهو ينقسم عموديا، ويصاب بالعديد من الشروخ التي تؤذن بالانفصال الجيوسياسي، بينما ينحاز بعض أطرافه إلى ممالأة العدو في مواجهة الشقيق/الغريم، وهو يسعى تسللا للإمساك بالسلطة المطلقة؛ حيث الاستبداد سيد سلطتي الأمر الواقع وبغيتهما لتحقيق أهدافهما الخاصة، في معزل عن أهداف وتطلعات شعبهما، الذي انهكته سياسات التقاسم والتحاصص الفئوي والفصائلي، منذ انقلاب العام 2007.


واليوم إذ يبلغ الصراع على السلطة وفتات المغانم الموعودة أشده، فلأن طرفي الانقسام يتصارعان في معارك غير مبدئية على سلطة مفترضة، سلاحهما كسر عظام هذا الطرف لعظام الطرف الآخر، لتحقيق مبتغى الهيمنة؛ هيمنة الأمر الواقع بدعم إقليمي إسرائيلي ودولي، على قيادة غير موحدة، وعلى تمثيل ناقص، وعلى قرار لم يعد فلسطينيا للأسف، وهو الذي تتداخل فيه عديد العوامل الإسرائيلية والإقليمية، العاملة جميعها على إفقاد وطنية الهوية الفلسطينية لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، وإخراجها من طور التحرر، نحو أطوار لا علاقة لها بالمسألة الفلسطينية وقضيتها الوطنية، كما عشناها على مدى السبعين عاما من عمر القضية التي نشأت مع نكبة العام 1948، وبالتالي تقزيم المسألة والقضية إلى صراع ذاتي بين أطراف وأصحاب القضية، وتقزيم الهدف الوطني أو الأهداف الوطنية الكبرى، إلى مجرد تنافس مغامر وانتحاري بين طرفين سلطويين، لا ينسجم سلوكهما ومتطلبات الوطنية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، بل أضحيا يفتقدان كل حس بالمسؤولية، ولا يعملان إلا لما يخدم انحيازاتهما المستجدة، لما يضاد مصالح وتطلعات شعبهما الوطنية.

لذلك يتحمل الطرفان، كما الأطراف الفصائلية الأخرى، وإن بدرجات غير متساوية، المسؤولية عن إفشال جولات الحوار التي انتهت جميعها، ليس إلى تعميق الانقسام فحسب، بل وإلى الدفع بالوضع الوطني نحو تكريس نوع من الانفصال الجيوسياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية، في وقت بدا ويبدو أن الدفع بالمزيد من الخطوات العقابية الأحادية ضد قطاع غزة، قد يتكشف عن خطوة اعتبار القطاع إقليما متمردا، ولو من دون الإعلان عن ذلك، نظرا لما يترتب على هذه الخطوة من مسؤوليات، وتخل «سلطوي فلسطيني» عن مواطني القطاع، وجرهم بجريرة «حماس»، في وقت ليس صحيحا أن كل سكان القطاع ينتمون إلى «حماس» بالطبع.

ومثل هذا التخلي يبرهن اليوم كما برهن بالأمس، على قصور في رؤية السلطة، وجورها على قسم من شعبها، وتخليها عنهم، والالتفات فقط لوضع الضفة، بإقامة شراكات تنسيقية سياسية وأمنية واقتصادية وتطبيعية مع الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي.

وفي المقابل تواصل قيادة «حماس» ومن خلفها قيادات «الإخوان» وجبهة الممانعة في الاستثمار بـ «المقاومة» من أجل التشبث بالسلطة، وهيمنة «حماس» على قطاع غزة، حتى ولو وصلت الأمور إلى «الخراب الانفصالي» بعد سيادة اثنا عشر عاما من انقسام كان سيد مرحلة من أشد مراحل انحطاط الوضع الوطني الفلسطيني، جراء تداعيات اتفاقات أوسلو وما جرته من كوارث، وإيصاله إلى مأزق لم يعد بالإمكان معالجته رسميا وسلطويا، من دون تدخل قوى شعبية فلسطينية ترنو إلى قيادة مرحلة ثورية تقطع مع مراحل التسوية التصفوية والمفاوضات العبثية، وتتجاوز أساليب النكوص والتنسيق ومحاكاة الاحتلال إيجابا، والتعايش معه طوال زمن القيادة الراهنة، وهي تواصل ضياعها وإضاعة الطريق الذي سلكته الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ العام 1965.

إحدى الضرورات الكفاحية الراهنة، تحتم النظر إلى حال ووضعية النظام السياسي الفلسطيني، وضرورة إصلاحه وتحديثه، وجعله شاملا وأكثر تمثيلية وتصليبا لوحدة القوى والبرامج الكفاحية، وذلك عبر تجسيد منطق ومبادىء التطبيق الفعلي لاتفاقات التوافق التي جرى التوصل إليها، وصولا إلى محاولة فكفكة التشابكات السائدة عبر الاتفاق على انتخابات جدية، تهدف لإخراج الوضع الوطني الفلسطيني من ظلمات وظلامات الانقسام والتحاصص، والتوقف عن الإيغال في دهاليز السلطة والتسلط الانفرادي والجماعي، والعودة إلى العمل بآليات الكفاح التحرري التي أصيبت بأعطاب استراتيجية، جراء النتائج التي قادت إليها اختلالات اتفاقات أوسلو، وكل من دخل إلى أفيائها وآمن بتداعياتها المدمرة، التي كانت السلطة لدى طرفي الانقسام إحدى أبرز ثمارها المرة.

ما يجري اليوم، قد يتجاوز مرحلة خراب توازي تدميرا ذاتيا، لكل ما بنته الحركة الوطنية الفلسطينية طوال سنوات الثورة والانتفاض، ولن يستفيد من هذا الوضع غير الاحتلال وكل المناوئين للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني. الأمر الذي يحتم وجود جبهة إنقاذ وطني تقود حوارا وطنيا جادا، يتجاوز عقدة التمثيل الفصائلي، وعقد القطبين وتنازعهما على السلطة والتفرد بها لصالحه، وتواضعهما وخفض سقف توقعاتهما من آليات السلطة، وما يمكن للاحتلال أن يقدمه، لهذا الطرف أو ذاك، وإثبات جديتهما وإيمانهما بالشراكة الوطنية وجبهتها الوطنية الموسعة، وإلا لن يكون في مقدور الجميع الوصول إلى برنامج كفاحي يضع حدا لسياسات التفريط واللعب على حبال الانتهازية والمفاوضات العبثية والسياسات العدمية، والمواقف اللامبدئية التي لم تعد تقيم وزنا لقدسية القضية الوطنية، من حيث هي قضية أرض وهوية ووطن ودولة ينبغي الكفاح من أجل إقامتها فوق تراب الوطن الفلسطيني.