& أمل عبد العزيز الهزاني

&

ننتظر كل عام موسم توزيع جائزة الملك فيصل العالمية. وشخصياً يعنيني، ربما بحكم التخصص، جائزتا العلوم والطب. ولأنها مؤسسة عريقة ذات معايير اختيار دقيقة، فإن 20 عالماً ممن نالوا الجائزة حصلوا على «نوبل» النبيلة لاحقاً. كان الموسم هذا العام مميزاً نظراً إلى حصول البروفسور جان فرشيه على جائزة العلوم في الكيمياء، وهو الذي تقلد منصب نائب الرئيس الأعلى للأبحاث والابتكار والتنمية الاقتصادية في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، وله تاريخ عريق في البحث العلمي وإدارته.
لكن في الحقيقة، وفي مناسبات مماثلة، يرد كثير من الأفكار والمقارنات بين ثقافة البحث العلمي لدى هذه الطبقة النخبوية من الباحثين والعلماء وبين ثقافتنا العربية عموماً. أهم هذه المقارنات هي إيمان أولئك بأن البحث العلمي عبارة عن شبكة من خيوط متقاطعة، وأن البحث العلمي بحاجة إلى فسحة كافية يتشارك فيها متخصصون من علوم شتى لإخراج بحث مرموق ورصين ذي قيمة للبشرية. أي أن الأمور الشكلية المتعلقة بأهمية التخصص الأوحد غير واردة.


مثلاً في العصر الحديث، حصل الإنجليزي السير غريغوري بول وينتر، المتخصص في علم الوراثة، على جائزة الملك فيصل العالمية في الطب عام 1995، وحصل في عام 2018 على جائزة نوبل في الكيمياء. أي أننا أمام نموذج من باحث ممتلئ بالمعارف ليس فقط لقدراته الذهنية العالية، بل لأن البيئة البحثية والعلمية هناك أتاحت له مساحة شاسعة لسبر أغوار تخصصات عدة. باختصار؛ تمتع الباحث الفذ بالحرية البحثية، وهذه الأخيرة هي العصا السحرية التي تحفّز العقل البشري وتثير فضوله للبحث والتقصي في اتجاهات عدة.


لديَّ قائمة طويلة لباحثين حصلوا على جائزة نوبل في الطب وهم فيزيائيون، وحصلوا على نوبل في الفيزياء بتخصصاتهم الهندسية، وربما من الأسماء الأشهر، الاسكتلندي السير ألكسندر فليمنغ عالم النباتات الذي اكتشف المضاد الحيوي «البنسلين» من الأعفان وحصل على جائزة نوبل للطب في عام 1945، والإنجليزي فرنسيس كريك، عالم فيزياء، تشارك مع علماء الأحياء في أحد أهم الاكتشافات في التاريخ البشري وهو تركيب المادة الوراثية (DNA)، وحصلوا جميعاً على نوبل في الطب عام 1962، والفرنسي أندريه لووف عالم الأحياء الدقيقة الذي حصل على نوبل في الطب عام 1965. لم تستبعد لجنة نوبل للطب الباحثين من غير الأطباء من الترشيحات، لأن البحث المنجز أهم من نوع الشهادة، ولأن قيمة الدرجة الأكاديمية في كونها سبيلاً للبحث، ولأن مخرجات هذه الأبحاث هي التي تخدم الإنسان.
حتى في مراحل مبكرة، يمكن للطالب في الغرب دراسة أكثر من تخصص في مرحلة البكالوريوس، والأمثلة كذلك كثيرة. هي ثقافة في النهاية.


أسرد هذه الأمثلة للمقارنة مع جامعاتنا في المنطقة العربية عموماً، وافتقارها لثقافة بحثية حرة، وفرض نظرية التخصص الأوحد، مما جعل الدائرة تضيق بالباحث، وانعكس ذلك سلباً على المخرجات، وهذا أحد أهم أسباب التراجع العلمي لدينا.
نظرياً، تبنت الجامعات السعودية مؤخراً منهج البحث العلمي في التخصصات العلمية المتداخلة، وشجعت عليها، بل وأصبحت جزءاً من خططها الاستراتيجية، حتى إنها تدعو الباحثين من التخصصات العلمية والطبية والإنسانية إلى عمل أبحاث مشتركة. لكن في واقع الحال، وداخل الكليات والأقسام الأكاديمية هذا الأمر غير متاح أو أنه موجود في حدود ضيقة، ولا يتمتع طالب الدراسات العليا بمشاريع بحثية ذات طابع متعدد التخصص، نتيجة عدم معرفة أو قناعة من القائمين عليها بخطأ التداخل في الأفكار البحثية. هذا البون الشاسع بين التنظير والواقع يثير جدلاً قائماً منذ سنوات، للأسف لم يتم حسمه حتى اليوم. لا يزال الحرس القديم الذي يتولى القرار داخل الأقسام الأكاديمية وفي الدراسات العليا متمسكاً بالمنهج الكلاسيكي الذي ينادي بالتخصص الواحد المطلق، وتثير هذه القضية الكثير من المشكلات والنقاشات العقيمة خلال اتخاذ القرار.


الحرية البحثية ليست أمراً حديثاً، بل لها جذور تاريخية لعلماء موهوبين أُتيح لهم ملعب واسع للحركة والبحث والدراسة. ولتوضيح هذه النقطة أكثر، نعود إلى تاريخنا الإسلامي وسنجد دلائل كثيرة لعلماء أثْروا البنك العلمي بمخرجات متنوعة التخصص مصدرها عالم أو باحث واحد. مثلاً الرازي، الذي عاش في القرن العاشر الميلادي درس الطب والفلسفة والرياضيات والفلك والأدب. ابن سيناء كذلك الذي جاء في القرن الذي يليه درس اللغة والأدب والعلوم والطب والفلسفة والأخلاق والرياضيات. والأمثلة لا حصر لها قديماً وحديثاً، تثبت أن العلوم بطبيعتها متداخلة متينة الروابط، وأن الإنسان قد يسع عقله الكثير من العلوم وإن بدت لعامة الناس متباعدة الاتجاهات. المفارقة أن من يقف ضد هذا الانفتاح في البحث العلمي هم حملة شهادات الدكتوراه الذين يفترض أنهم يتحلون بسعة الأفق، ومعظمهم من الذين حصلوا على درجاتهم الأكاديمية من الجامعات الغربية...
السياسة البحثية في الجامعات تحتاج إلى مراجعة، وتصويب للأخطاء، فالبحث العلمي ليس إنفاقاً مالياً ومختبرات مجهزة فقط، بل سياسات ومنهج وثقافة.