عبدالله بشارة

في كتاب من ثلاثمئة صفحة، دوّنت ما شاهدت وما قرأت وما عرفت عن الغزو القبيح الذي تولى تنفيذه صدام حسين وحزبه الثقيل، وهدفي من الكتاب ترسيخ الحس الأمني الوطني في ذهن الشعب الكويتي الذي تعرّض للإهانة واحتلت أراضيه في سابقة لم تعرفها الكويت، والتي تحررت بانطلاقة عالمية فريدة لتصويب مسار العدالة بطرد الغازي وهزيمة جيشه وتقويض أحلامه وإنهاء عصره السيّئ.
كان هدفي أن يقرأ شعب الكويت حجم الضيق وكمية المعاناة التي تحملتها القيادة الكويتية من حكام العراق وتجاهلهم مشاعر شعب الكويت وتنكّرهم حقوقه مع التعرّف على سعة الصدر وقوة التحمل وهي العناصر التي حافظت على هدوء القيادة الكويتية منذ الاستقلال أمام ادعاءات واستفزازات وتطاولات، ثم مغامرة الغزو الجنونية.


شاهدت شخصياً في الستينات مساعي القيادة في عهد المرحوم الشيخ صباح السالم، ثم في عهد الشيخ جابر لإيجاد وسيلة تقنع حكام العراق بترسيم الحدود بين البلدين وفق الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين على أساس الرسائل المتبادلة في عام 1923، ثم تأكدت في عام 1932، وتوّجت بوثيقة الاعتراف عام 1963.
كان المرحوم سمو الشيخ سعد ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، يشرف على أعمال اللجان الفنية التي تشكّلت بين البلدين لترسيم الحدود، التي استمرت من دون جديد من العراق لتحقيق مهمتها، فلم يكن العراق مؤمناً بعملها وليس في وضع لقبول حصيلتها.
بينما تولى سمو الشيخ صباح الأحمد، كوزير للخارجية، المهمة الصعبة في ضبط العلاقات لكي لا تنفجر وإبقاء خيط الأمل سليماً، رغم التدخّلات العراقية العسكرية على الأراضي الكويتية، لكنه بذل المستحيل لتطويق التوتّر وضبط الأعصاب لعل الأفق المغلق يتبدل بالتدرج.
كانت سياسة التوسّع جنوباً عبر الزحف المبرمج بالهضم اليومي للأراضي الكويتية بأحجام لا تثير الحساسيات داخل الرأي العام الكويتي، لأنه لم يكن على بينة من التفاصيل، ولكنها تستفز القيادة وتشحن العلاقات بالتوتر مع تصاعد الأجواء المربكة على الحدود، فتتحرّك الدبلوماسية الكويتية لتطويق التوتّر ومنع الانفجار بجهد مرهق وبأعصاب مدركة لضرورات الصبر، وكان سمو الأمير مثالاً نادراً في حجم الصبر وتبريد السخونة، وحماية خيوط الأمل من التلف.
قليلون عاشوا تلك الفصول التي لم تخرج إلى السطح ولم يتناولها الإعلام، على أمل أن يعقل صاحب القرار في بغداد، لكن الحكومات العراقية ضعيفة في شرعيتها، وتمارس العمل بالحس المؤقت، وعاجزة عن اتخاذ القرار المنتظر، وتتبع نهج التأجيل، ابتعاداً عن السلبيات التي قد يثيرها قرار الترسيم.
كانت مصائب العراق من طيش حكوماته تنعكس على الكويتيين الذين لم يكن لهم دور في خلقها، ومن أبرزها الحرب مع إيران التي أجبرت الكويت على الاستجابة لبعض الاحتياجات العراقية.
كان ترؤّس سمو الأمير أعمال اللجنة السباعية العربية التي تتبنّى دبلوماسية العراق وتدافع عنه، أضفى على صورة العراق شيئاً من الأمل في عقلانيتها، حيث وضع سمو الامير هذه المهمة في صدر مسؤولياته.
ولأنني عشتها في الستينات بمكتب سمو الأمير عندما كان وزيراً للخارجية، وتابعتها في الأمم المتحدة، وفي الاجتماعات التي عقدها سمو الشيخ صباح هناك، كان العراق دائم الحضور في مداولات مجلس التعاون، كان همّاً ثقيلاً في حروبه وفي سلوكه وفي دبلوماسيته الناشفة وفي تحرّشاته العدائية على الأراضي الكويتية.


هذا الكتاب مرآة لمشاعر كويتية شاهدت فاختزنت القبيح في سلوك نظام صدام، وفي مواقف من قبله، ومن هنا الإصرار على الحذر واليقظة وتأمين آليات الردع مع الشركاء الذين تلتقي مصالحهم مع مصالحنا؛ فالشراكة تأتي مكملة للترابط المصيري مع دول مجلس التعاون، وعلى الأخص المملكة العربية السعودية، فهي القطار الذي يضمّنا، إذا تعافى هذا القطار انتشينا، وإذا تحرّك ابتهجنا، وإذا تعطّل ضعفت همّتنا، هذا قدرنا نسير في فلكه بحكمة المجرّب الذي لا يريد خصومات والمدرك لأثقال الجغرافيا ولمتاعب الابتزاز والباحث عن علاقات قائمة على حسن الجوار وطيب النوايا.
همّي دائماً التأكيد على أن الكويت بحاجة إلى مساند من خارج حدودها من أجل تأمين حياتها، وقد أكدت تجربة الغزو المؤلمة صواب الحكمة في قيام مجلس التعاون، الذي قام بدور تاريخي كرافعة مؤثرة في الفضاء العالمي، الأمر الذي جعل تحرير الكويت مضموناً..
وليس من السهل إعداد كتاب كامل عن الغزو فلا يوجد أرشيف كويتي حول الاتصالات قبل الغزو ولا محاضر للوسطاء، كما لا يوجد أرشيف عراقي متوافر، فقد أخذت الولايات المتحدة كل أوراق العراق وشحنتها إلى مراكز لتبقى هناك، وفق قاعدة الإفراج السنوي، فلم أتمكّن من معرفة محتوياتها، لكنني تابعت ما صدر من مذكرات مختلفة من ضباط الجيش الأميركي ومن السياسيين ومن جنرالات الجيش العراقي المتواجدين خارج العراق.
لذلك، فإن رسالة الكتاب ليست وضع سجل كامل عن أحداث الغزو، ولا عن الوقائع اليومية لقرارات القيادات العراقية أو التحالفات الدولية، وليست تحليلاً عن مسار الخطوات التي اتخذتها الأطراف المعنية، وإنما هي رسالة توعية بضرورة تواجد مجلس التعاون في حياة الكويت وحتمية التحالف العابر للقارات مع الشركاء التاريخيين، الذين نرتبط معهم بلقاء المصالح.
وصحيح أن الكتاب لا يعالج كل القضايا المتعلّقة بالغزو، فقد أشرت إلى كتب عن المقاومة وعن الأسرى وعن سياسة التدمير التي اتبعها جيش العراق بتعليمات من قيادته، من دون الدخول في تفاصيل متوافرة في مطبوعات صدرت من الكويت، ومن آخرين عرب وغيرهم، قرأت كل ما تيّسر، وهدفي تكرار انكشاف الكويت الأمني، الذي يفرزه واقعها الجغرافي.


هذا الكتاب اجتهاد مني، قد لا يُرضي القارئ، لكن الهدف هو تحريك جرس انذار، لكي لا نسترخي في حياتنا الطبيعية المستقبلية التي قد تلهينا عن الحقائق العسرة المدونة على جدار مستقبل الكويت بأكبر حروف، اقتبست كثيراً من الكتب التي صدرت، وأولها أطماع الحكومات العراقية بالكويت واستضعافها واستغلال طيبتها، وتموّجات ادعاءاتها، والثانية عن الحالة السيكولوجية للقيادة العراقية، كما يشرحها السياسيون والعسكريون مع تقلّبات المزاج في موقع القرار العراقي، وفي داء العظمة المتغلغل في شخصية صدام..
والخلاصة أن الكتاب مساهمة لضرورات اليقظة الدائمة لتمكين الكويت من التواصل مع رسالتها الإنسانية، التي صارت عنوانها الدائم.

&