&رياض بوعزة

الحكومة بدأت بالفعل بترك الدينار الهش لقوى العرض والطلب وهو ما يؤكد أنها ماضية في تحرير أسعار الصرف.

&الحكومة ماضية في تحرير أسعار الصرف

لم تعلن الحكومة التونسية حتى اليوم بشكل علني عن خطط لتعويم الدينار والذي كان سببا لإقالة وزيرة المالية السابقة لمياء الزريبي حينما كشفت عن ذلك لأول مرة في أبريل 2017 لكن المؤشرات تؤكد أن الحكومة ماضية فيها رغم التحذيرات من احتمال انكماش الاقتصاد ومفاقمة صعوبة معالجة الأزمات المتراكمة.

في ظل هذا الصمت، يبدو من شبه المؤكد أن تحرير أسعار الصرف سيكون أحد أبرز الإصلاحات “الخفية” التي تنوي الحكومة القيام بها عاجلا أم آجلا، باعتبارها أحد المقترحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي لتحسين البيئة الاستثمارية وتقليص معدل البطالة البالغ 15.5 بالمئة وإنعاش النمو الاقتصادي تدريجيا.

كما لا يمكن تحليل هذا التوجه بمعزل عن اتفاقية التبادل التجاري الحرّ الشامل والمعمّق (أليكا) التي تنوي تونس توقيعها في مايو المقبل مع الاتحاد الأوروبي، في وقت يقول فيه المعارضون لتلك الاتفاقية إنها ستؤدي إلى آثار كارثية كونها تستند على فرضية جوهرية مفادها أن تكون قيمة اليورو نحو 6 دنانير لكي تتدفق جحافل المستثمرين الأوروبيين إلى البلاد.

تشير تحركات أسعار الصرف ونشاط الشركات التونسية، إلى أن الدينار دخل بالفعل مرحلة التعويم حيث فقد أكثر من نصف قيمته في غضون عامين فقط، وبمعنى أوضح فإن البنك المركزي لم يعد لديه أي صلاحيات للتدخل في سوق الصرف، وهو ما أقره محافظ البنك مروان العباسي صراحة منذ أن تولى منصبه قبل عام.

وما يعزز فرضية مضي الحكومة في ترك الدينار دون دعم في قبضة العرض والطلب، تلك التصريحات المتتالية لمسؤولي البنك المركزي، الذين يؤكدون أن الاقتصاد أمام مخاطر أكبر من أي وقت مضى، مع ترجيحهم تدهور قيمة العملة لمستويات أكثر انخفاضا في الفترة المقبلة مع ارتفاع منسوب التجذبات السياسية.

وطيلة العامين الماضيين، أبدى الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الذي يضم رجال الأعمال، قلقه من التراجع الكبير للدينار وقال إنه يمثل خطرا حقيقيا على الاقتصاد المحلي وعلى الشركات التي تستورد أغلب المواد الخام من الخارج كونها تتعامل بالعملات الأجنبية في عمليات التوريد.

تظهر وثيقة تم تسريبها في 2016 وتضمنت إملاءات صندوق النقد على تونس للحصول على قرض بقيمة 2.9 مليار دولار أن هناك نية لتغيير أسلوب التدخل في ما يتعلق بتحركات صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية وإعادة صياغة قانون الصرف ليتلاءم أكثر مع التحديات المستقبلية.

في تلك المذكرة تمت الإشارة إلى أن تونس عاقدة العزم على إقرار قانون جديد لتحرير المبادلات التجارية الخارجية، وفقا للمعايير المعتمدة في أنظمة الصرف العالمية، وبموجب هذا الإجراء سيتم خفض قيمة العملة تدريجيا مقابل العملات الأجنبية.

ورغم إصرار الحكومة على أنها تسير في الطريق الصحيح في تنفيذ برنامج الإصلاح، فإن السلطات النقدية تحذر باستمرار من أن المزيد من تراجع قيمة الدينار ستكون له تداعيات سلبية أعمق تمس القدرة الشرائية للتونسيين وتعمق العجز التجاري، إلى جانب تفاقم الخلل في التوازنات المالية للبلاد.

وفي ظل هذه التناقضات في المواقف، تتزايد المخاطر، التي تحاصر الاقتصاد، في وقت تصل فيه آراء الخبراء إلى القول إن تونس في حالة إفلاس غير معلن بعد تراجع احتياطاتها من النقد الأجنبي بنحو 60 بالمئة عن مستوياتها قبل الأزمة، التي ضربت البلاد في 2011، فضلا عن تضخم الديون الخارجية.

من المتوقع أن يرتفع الدين العام بنحو 3.2 مليار دولار خلال هذا العام، حسب وزير المالية محمد رضا شلغوم، لينضاف إلى قرابة 23.9 مليار دولار هي القيمة الإجمالية لديون البلاد المسجلة بشكل رسمي بنهاية 2018، وهو ما يفاقم أزمات المواطنين ويزيد الضغوط على الحكومة لتعديل أوتار الإصلاحات القاسية، التي تنفذها بالاتفاق مع صندوق النقد للحصول على بقية أقساط القرض.

عند إجراء تحليل بسيط على ما يحدث في سوق المال التونسي، نجد أن احتياطات البلاد من العملة الصعبة ارتفعت نهاية الشهر الماضي إلى حوالي 5.08 مليار دولار من نحو 4.52 مليار دولار قبل شهر. وهذا لا يعني بالضرورة أن الأمور تسير على ما يرام، لأنها تظل بعيدة جدا عن مستويات ما قبل 2011 حينما كانت عند 13.5 مليار دولار.

أغلب المحللين يشككون في وعود رئيس الحكومة يوسف الشاهد، بإخراج البلاد من دوامة الاقتراض بحلول العام المقبل، في حال تم تنفيذ باقي الإصلاحات والبرنامج الاقتصادي، الذي أطلقه حينما تولى السلطة أواخر أغسطس 2016، لأن أغلب القطاعات الإنتاجية الحيوية لا تعمل بالشكل المطلوب.

وعليه، فإن ما يظهر للعيان أن التعاطي الرسمي مع الوضع المالي للدولة يبدو مرتبكا بشكل عميق في ظل تصاعد القلق بشأن الوضع الاقتصادي المتأزم، خاصة مع سيل تحذيرات كبار المسؤولين في المركزي، حول احتمال إفلاس عدد من المصارف التي تواجه بالفعل أزمة سيولة خانقة.

وما يؤكد ذلك، اضطرار المركزي الصيف الماضي إلى إعلان قواعد حوكمة جديدة لإدارة النظام المالي للبلاد بهدف تفادي أي تداعيات سلبية محتملة على القطاع المصرفي رغم ارتفاع أرباح البنوك العام الماضي بنحو 25 بالمئة بمقارنة سنوية، لكنها قد لا تأتي بنتائج ملموسة وفق ما هو مخطط له مع استمرار الضبابية في إدارة الأزمة.

وحتى المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أطلق صفارات الإنذار من تفشي الأزمات في ما تبقى من القطاعات الإنتاجية النشطة إن لم يتم الإعلان عن حالة طوارئ اقتصادية فعلية. وطالب، في خطوة اعتبرها البعض خارج سياق مهامه الرئيسية، بممارسة ضغوط أكبر على صناع القرار لتنفيذ إجراءات عاجلة، وتسريع إصلاح الوضع، ولو نسبيا، خلال العام الجاري.

ونتيجة ارتباك الحكومة في معالجة الأزمة على أسس مستدامة، يتوقع كثيرون حدوث فوضى أكبر في أسعار الصرف في المدى القريب، ما قد ينعكس على ارتفاع معدل أسعار الاستهلاك البالغة حاليا 7.1 بالمئة، بحيث تدخل الدولة في حالة ركود تضخمي ستؤدي إلى حدوث هزات اجتماعية أوسع.

&