سليم نصار&


كنت مسافراً الى بيروت على متن طائرة «الميدل ايست» عندما جلس شاب على المقعد المحاذي لمقعدي وقدم نفسه بصفة «الكابتن» فلان.

وظننت للوهلة الأولى أنه من ضباط الجيش اللبناني. وعندما أقلعت الطائرة وابتعدت عن مطار «هيثرو»، علمت منه أن صفة «كابتن» لها دلالة أخرى تتعلق بمهنته كطيار مدني. لذلك كان ربّان الطائرة التي تقلنا يتعمد الخروج من غرفة القيادة، ويسأله الانضمام اليه.

ولما أعرب عن اعتذاره عن عدم قبول دعوة زميله، سألته عن سبب إحجامه وتمنعه، فأجاب:

- أنا ربّان هذه الطائرة، ولكنني اليوم في إجازة... وقبل أن يستفيض في شرح وضعه، بادرته بسؤال آخر:

- لا أرى ما هو المانع من قبول دعوة زميلك في المهنة!

وهزّ رأسه معترضاً، وأكمل يقول: لا أريد أن أعرّض نفسي للمساءلة في حال كان بين الركاب واحد من موظفي «أياتا» (أي اتحاد النقل الجوي الدولي).

أجبته مستوضحاً: وما دخل الـ «أياتا» في هذا الشأن؟

وردّ على الفور مستطرداً: إن نظام الطيران الذي يشرف الاتحاد على مراقبته يحظر وجود قائدين في وقت واحد خلف مقود الطائرة. صحيح أن هناك مساعداً في غرفة القيادة... ولكن الصحيح أيضاً - لا سمح الله - أنه في حال تعرضت الطائرة لخلل ميكانيكي أو لعاصفة هوجاء، فالكابتن الجالس وراء المقود وحده مسؤول عن أخذ زمام المبادرة، وهذا ما يمنعني من الدخول الى غرفة القيادة لئلا يربك وجودي القائد المكلف بهذه الرحلة.

بعد أسبوع من وصولي الى بيروت، كتبت مقالة رمزية مستوحاة من هذه الواقعة، قلت فيها إن «لبنان - الطائرة» رهين ثلاث قيادات ممثلة برفيق الحريري والياس الهراوي ورستم غزالة. لذلك من الصعب هبوطها على مدرج السلامة بأمان. (ولم أذكر في حينه «حزب الله» لأن نفوذه الحقيقي بدأ عقب حرب 2006).

وبالمقارنة مع طائرة الحكومة اللبنانية الجديدة التي استأنفت رحلتها الشاقة بعد تسعة أشهر، فإن عدد قادتها تجاوز عدد كل القادة الذين عرفناهم سابقاً: فمن الرئيس ميشال عون الى السيد حسن نصر الله الى الرئيس نبيه بري الى الرئيس سعد الدين الحريري، الى وليد جنبلاط والدكتور سمير جعجع وسليمان فرنجية... وسواهم ممن يمثلون الدول الإقليمية والدولية. من هنا يرى المراقبون أن احتواء هذه الكمية من المواقف المتعارضة يقتضي من الرؤساء الثلاثة، أي عون وبري والحريري، القيام بمحو الالتباس السياسي والاقتصادي من أطول بيان وزاري عرفه مجلس النواب. خصوصاً أن فترة الانتظار الطويل أثبتت أن لبنان يعاني من أزمة نظام لا من أزمة حكم. كما يعاني من أزمة محاصصة كأن اختيار أعضاء الوزارة يحتاج الى توزيع منصف لا الى اختيار منصف.

لأسباب لم تعرف بعد، شهد الأسبوع الماضي تزاحماً غير مسبوق على الساحة اللبنانية اشتركت فيها الجامعة العربية والسعودية وايران وحتى الولايات المتحدة. والذي زار فندق «فينيسيا» الأسبوع الماضي أدهشه رؤية العناصر التي زاد عددها عن الثلاثمئة ممن يمثلون مختلف قطاعات الجيش الإيراني وفي طليعتها «الحرس الثوري». وتردد أثناء الزيارات الرسمية التي قام بها وزير الخارجية محمد جواد ظريف للمسؤولين أنه وعناصر الوفد المرافق جاؤوا لمشاركة لبنان في فرحة الانفراج الذي حققه «حزب الله». ولما جاهر سامي الجميل، رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» بهذه الحقيقة، تصدى له النائب نواف الموسوي باتهام موجع أدت تداعياته الى اعتصام كتائبي في ساحة ساسين بالأشرفية!

أما المملكة العربية السعودية، فقد أرسلت الى بيروت المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا، ليبلغ الرئيس ميشال عون برفع الحظر عن سفر السعوديين الى لبنان.

كشف الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان، أثناء زيارته لنقابة المحررين، عن سرّ حمله في ذاكرته منذ زيارته لطهران في مطلع عهده. قال إنه دعي الى افتتاح «معرض الدفاع» وأعجب بمحتوياته، الأمر الذي شجعه على مصارحة المسؤولين عن حاجة الجيش اللبناني الى سلاح متطور لا يملك لبنان اعتمادات له. واعترف أمام المحررين أنه لم يتلقَ رداً على طلبه سوى التجاهل. والملفت أن كلام الرئيس سليمان صدر في وقت كان أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله يعرب عن استعداده لاقناع طهران بأهمية تسليم الجيش اللبناني منظومات دفاع جوي.

وجاء تعليق الدولة اللبنانية عبر الصحف التي كتبت تقول إن حصول الجيش على سلاح من الترسانة الإيرانية يحرمه بالطبع من المساعدات العسكرية الاميركية التي تعدت البليوني دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة. وقبل أن يحسم هذا الموضوع، أعلنت السفارة الاميركية أنها سلمت الجيش اللبناني شحنة من الصواريخ الذكية المتطورة الدقيقة الموجهة بالليزر. ولم تذكر السفارة ما إذا كان هذا السلاح مسموح استعماله ضد الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تخترق الأجواء اللبنانية كل يوم!

وكما تذرع الرئيس السابق ميشال سليمان بحجج لم يستسغها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما فاجأه بتقديم هبة كانت عبارة عن خمس طائرات من طراز «سوخوي»... كذلك فعلت قيادة الجيش عندما كرر بوتين العرض ذاته قبل عيد الاستقلال اللبناني بأسبوعين. أي أنه تذرع بأسباب غير الأسباب الحقيقية التي أرضت الولايات المتحدة والدول الغربية.

السؤال الذي رافق هذا الحراك الدبلوماسي - العسكري طرح من جديد طبيعة دور لبنان في محيطه، وما إذا كان سيتقمص دور «أثينا» ناشرة العلم والمعرفة خلال القرن السادس عشر... أم دور «سبارطة» التي اشتهرت بالحروب وفن القتال في ذلك الزمان.

تردّ على هذه الأحجية «جامعة الحقوق» في بيروت، التي أنشئت في عصر الامبراطورية الرومانية. وكان الطلاب يقصدونها من كل مكان، وخصوصاً من روما وأثينا. وقد دلت الحفريات القديمة والحديثة عن آثار ذلك الصرح الحضاري الذي أخرجته الزلازل السبع التي ضربت العاصمة خلال مراحل مختلفة.

وعندما تأسست الجامعة الاميركية في بيروت سنة 1866 حرص رئيسها دانيال بلس على التذكير بأنه يستلهم الأسس التي اشتهرت بها «جامعة بيروت للحقوق»، إن كان من حيث إتساع فضائها الثقافي... أم من حيث قدرتها على استيعاب 35 جنسية تشمل منطقة الشرق الأوسط وافريقيا الشمالية، وحتى أوروبا.

ولما أحصت الصحف سنة 1980 عدد الحكام الذين تخرجوا من الجامعة الاميركية، تبيّن أن سبعين في المئة حصلوا على شهادتها. والأمر ذاته ينطبق على خريجي الجامعة اليسوعية.

ولم يكن ذلك المعيار وقفاً على الحكام فقط، وإنما شمل المعارضة وحركة القوميين العرب بكل رموزها العربية والفلسطينية.

وتزامناً مع افتتاح الجامعة الاميركية في بيروت، افتتح القس أنطانيوس سعد، والد النائب شارل سعد، كلية الشويفات التي زاحم انتشارها في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة شركة «ماكدونالد»، أي أن فروعها في العالم تعدت الـ 65 فرعاً. وقد ورثت أعباء استمرارها ليلى سعد عن زوجها بحيث جعلت منها صرحاً رائداً في حقل التعليم.

يقول المعنيون في حقل التربية والتعليم إن رغبة الشعب اللبناني تقربه من نموذج أثينا أكثر مما تقربه من نموذج سبارطة. ولكن هذا التماثل لا يعطي «تجار المعرفة» الحق في تأسيس 45 جامعة. وهذه أعلى نسبة في العالم بالنسبة لعدد السكان. وهذا ما يفرض تدني المستوى الجامعي في أكثر من ثلاثين جامعة.

يؤكد مؤرخو الحقب التي أعقبت إعلان استقلال لبنان حتى مرحلة اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينات إن لبنان في خصائصه المتنوعة كان يمثل جامعة المنطقة... ومستشفى المنطقة... وفندق المنطقة.

ولكن التقدم الذي شهدته منطقة الخليج العربي، نقلت هذه المواصفات الثلاث الى مواقع مختلفة. من هنا القول إن الحكومات التي تولت المسؤولية منذ زوال هذه المواصفات عن الخصوصية اللبنانية لم تهتم بملء الفراغ بسلطة تنفيذية قادرة على الأداء والعمل بمعزل عن الأحزاب الطائفية. لذلك بدأ لبنان يتحول تدريجياً من اعتماد نموذج «أثينا» الى اعتماد النموذجين معاً، أي سبارطة وأثينا. وهذا ما يفسر حالات البلبلة والتمزق التي يعانيها منذ زمن طويل!

&