&الحسين الزاوي

يواجه العراق بعد حسمه لرهان تحرير أراضيه من سيطرة المجموعات الإرهابية، رهاناً آخر أكثر صعوبة يتعلق بمستقبل الدولة بكل مؤسساتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويرتبط بشكل أساسي بخيار السيادة وباستقلالية القرار الوطني العراقي في مواجهة كل التدخلات الدولية أو الإقليمية، التي دأبت على محاولة تحويل العراق إلى ساحة للصراع وتصفية الحسابات بين القوى الكبرى من جهة، ودول الجوار من جهة أخرى، لاسيما إيران وتركيا اللتان تعملان بشكل واضح وعلني وأحياناً بطريقة فجة على تعزيز نفوذهما في بلاد الرافدين منذ الاحتلال الأمريكي لعاصمة الرشيد سنة 2003.&
ويشير التنديد الواسع الذي عبرت عنه مختلف الكتل السياسية العراقية بشأن تصريحات الرئيس الأمريكي التي أكد فيها أن القاعدة العسكرية الأمريكية في عين الأسد غربي بغداد يمكنها أن تكون منطلقاً لمراقبة إيران، إلى أن العراق بكل مكوناته يشعر بحساسية بالغة بشأن كل ما يتعلق بسيادته الكاملة على أراضيه، لأن العسكريين الأمريكيين الموجودين حالياً في بعض المناطق العراقية في إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» منذ سنة 2014، تكمن مهمتهم الرئيسية في التدريب وفي توفير الدعم الفني للقوات المسلحة العراقية التي تحارب فلول الإرهابيين بعد تدميرها لكل قواعد المجموعات المسلحة.&
وقد أكد الرئيس العراقي برهم صالح، في هذا السياق، أن الدستور يرفض كل محاولة لاستعمال العراق كقاعدة لضرب أو للاعتداء على بلد جار، لأن وجود القوات الأمريكية في العراق يتم بموجب القانون وبناء على اتفاق واضح بين البلدين، وكل عمل يتم القيام به خارج هذا الإطار يعتبر مرفوضاً. وقد ذهبت مختلف الكتل السياسية وفي مقدمتها التيار الصدري إلى القول إن انسحاب العساكر الأمريكيين من العراق يمثل ضرورة وطنية يجب أن يعمل على الالتزام بها الجميع من خلال دفع البرلمان إلى اعتماد قانون يُلزم السلطة التنفيذية في البلاد بالعمل على سحب القوات الأجنبية، كما أجمعت مواقف مختلف الشخصيات السياسية العراقية على اعتبار تصريحات ترامب، استفزازاً خطيراً لكل العراقيين وسابقة خطيرة في تاريخ العلاقات بين واشنطن وبغداد منذ انسحاب القوات الأمريكية سنة 2011.&


ومن الواضح أن العراقيين بمختلف توجهاتهم يرفضون بشكل قاطع، أن يتحول بلدهم إلى ساحة حرب إقليمية بين واشنطن وطهران، في مرحلة تتطلع فيها كل شرائح الشعب العراقي لطي صفحة المعاناة والحروب والحصار الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود والتي أثرت بشكل لافت في السلم المجتمعي، وكانت لها تداعيات خطيرة على وحدة وتماسك الدولة العراقية. ويذهب الكثير من المراقبين إلى القول إن موقف ترامب الجديد يتعارض مع تصريحات سابقة، انتقد فيها تدخل بلاده في العراق ووصل به الأمر إلى حد التأكيد بشكل واضح، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها أن تستمر في ممارسة دور شرطي العالم. وكان ترامب، قد أثار، في السياق نفسه، حفيظة السياسيين العراقيين عندما زار في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد الجوية سراً ومن دون أن يلتقي بأي مسؤول عراقي.&


بيد أنه وبصرف النظر عن مواقف وتصريحات ترامب التي اعتاد من خلالها على التلفيق والكذب، فإن الوقائع تؤكد أن العراق يواجه منذ الاحتلال الأمريكي، انتهاكات متعددة لسيادته من قبل دول أخرى غير أمريكا وفي مقدمها إيران وتركيا و«إسرائيل»، فإيران لا تخفي في الكثير من الحالات تدخلها السافر في الشؤون الداخلية للعراق بمباركة من أطراف محلية تدافع عن مصالح طهران وترى في ذلك تحالفاً طبيعياً مع دولة «شقيقة» وجارة، كما أن أنقرة سمحت لنفسها باستباحة حرمة الأراضي العراقية في مناسبات عدة بدعوى الدفاع عن مصالحها ولا تخفي دعمها لحلفائها من الأقليات العراقية وتُدرج ذلك في خانة الدفاع عن أمنها القومي. وتعمل «إسرائيل» في سياق متصل، على تعزيز وجودها في إقليم كردستان العراق، وقد ساندت بشكل صريح استفتاء الانفصال الذي جرى تنظيمه في الإقليم بمباركة مباشرة وغير مباشرة من طرف الكثير من الدول الغربية وفي طليعتها فرنسا وأمريكا، ولا يعني كل ذلك أن بقية دول الجوار غير معنية بمحاولة التدخل في الشأن العراقي، من منطلق شعورها بالحاجة الملحة إلى متابعة الأوضاع عن كثب في دولة بات فيها الاستقطاب الطائفي والعرقي يمثل حالة سياسية مزمنة.&
ويمكن القول في الأخير إنه لا أحد يملك الحق في الوصاية على أحلام وتطلعات الشعب العراقي، لكن الرهان الكبير على السيادة، الذي تدافع عنه مختلف مكونات المجتمع، يتجاوز - في زعمنا- مجرد التنديد بتصريحات رئيس أمريكي احترف منذ وصوله إلى البيت الأبيض الصلف والرعونة السياسية، ليعبر في واقع الأمر عن وجود رغبة شعبية عارمة في أن يستعيد العراق سيادته الكاملة، ويتخلص من كل التدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية، ويستعيد مكانته كقوة إقليمية عربية كبرى قادرة على المساهمة في إعادة التوازن الاستراتيجي بين الدول العربية ومجموع جوارها الإقليمي.

&