&هادي اليامي& &

شيوخ الضلال اتخذوا من منابر بعض المساجد منصة للانطلاق، واستغلوا العاطفة الدينية المتجذرة لدى الشباب، فحرفوا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن سياقها الطبيعي

يترقب العالم إعلان الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش في سورية والعراق بصورة نهائية، بعد إخراجه من قرية الباغوز، شرق سورية، والتي تعد آخر جيوبه التي يتمترس فيها، ليبدأ فصل جديد هو من وجهة نظري أكثر صعوبة وأشد أهمية، ويتمثل في إلحاق الهزيمة الفكرية بالتنظيم المتطرف، مما يؤدي إلى استئصاله تماما وضمان عدم عودته من جديد، تحت أي مسمى من المسميات. وأرى أن المجتمع المدني الدولي ومؤسساته المعنية على وشك ارتكاب خطأ فادح سيكلف العالم كثيرا، وهو تصور أن إعلان الهزيمة العسكرية يعني نهاية الجهود الرامية لاجتثاث العنف والغلو، فالتطرف هو في الأصل فكر قبل أن يكون ممارسة وعمليات إرهابية، لذلك فإن نهاية هذه الحقبة السوداء من تاريخ الإنسانية لن تتحقق إلا إذا اعتمد الجميع إستراتيجية واضحة المعالم تقوم على بيان خطأ دعاة العنف وفضح ممارسات شيوخ الفتنة والضلال، وتبيان زيغهم وانحرافهم عن منهج الحق الذي جاءت به كافة الأديان والشرائع السماوية، وفي مقدمتها الدين الإسلامي الحنيف، الذي أبدى صرامة واضحة في قضايا الدماء المعصومة، وأوضح بما لا يدع مجالا للشك والتأويل حرمة أرواح البشر ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.
هذه الإستراتيجية ينبغي أن تقوم بتنفيذها العديد من الجهات الرسمية والشعبية، ويبرز فيها دور كبير ومقدر لمنظمات المجتمع المدني، بدءا من الأسرة والمدرسة والجامعة، مرورا بدور المسجد ووسائل الإعلام ومؤسسات التنوير والتثقيف، فالإرهابي لم يخرج من بطن أمه وهو مشبع بأفكار التطرف والعنف، بل إن هناك جملة من العوامل والمؤثرات التي قادته إلى سلوك ذلك الطريق، وقبل التفكير في معاقبته على جرائمه وأفعاله ينبغي معرفة السبب الذي جعله يتحول عن جادة الصواب، ومعالجته، وبالتالي نضمن عدم وقوع غيره في الخطأ ذاته. لذلك فإن واجب الأسرة يتمثل في غرس روح الاعتدال في نفوس الأبناء منذ سنين التنشئة الأولى، وتنمية روح الحوار في دواخلهم، وتحذيرهم من كل صنوف الإقصاء وتحصينهم ضد الكراهية، على أن تتولى المدرسة تعزيز تلك المفاهيم المتقدمة. وقد أحسنت السلطات السعودية صنيعا بتضمين مادة حقوق الإنسان في المناهج الدراسية، بما يؤدي إلى تعزيز تلك الثقافة وترسيخها.
أما دور المسجد فهو أكثر خطورة، لأن أرباب الفتنة وشيوخ الضلال اتخذوا من منابر بعض المساجد منصة للانطلاق، واستغلوا العاطفة الدينية المتجذرة لدى معظم الشباب، فقاموا بتحريف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن سياقها الطبيعي، وفسروها بما يتوافق مع نزعاتهم الشريرة. ونسبة لأننا مجتمع متدين بطبيعة الحال -ولله الحمد- فإن الواجب الملقى على عاتق خطبائنا ودعاتنا الأفاضل يكتسب أهمية متزايدة في فضح الأكاذيب التي يرددها المغرضون، وإيضاح المنهج الصافي النقي للدين الإسلامي الحنيف، والتصدي لكل من يحاول استغلال تلك المنابر المقدسة لبث السموم وسط الشباب، ومراقبة من يتظاهرون بالورع والتقى للتغرير بفلذات الأكباد. أما واجب الإعلام فإنه لا يقل عن ذلك أهمية، لأنه زائر يدخل البيوت والغرف بلا استئذان، ويخاطب جميع فئات وشرائح المجتمع، وعليه عبء تنويري وتثقيفي بالغ الأهمية، لذلك ينبغي على كل العاملين في الحقل الإعلامي تقديم المصالح العليا على ما سواها، دون انشغال بالسبق الصحفي والكسب الإعلامي، لأن تلك مكاسب آنية لا ينبغي أن تعطى الأولوية على المصلحة العامة الدائمة. لذلك فإن أمام وسائل الإعلام المختلفة مسؤولية تاريخية في التصدي لذلك الوباء الذي يؤرق مضاجع الجميع، وهذه المهمة ينبغي أن تبدأ بتطوير الإستراتيجيات والخطط الإعلامية، وتكليف العاملين في هذا الحقل، سواء في المؤسسات الحكومية أو الخاصة بتنفيذ هذا الواجب، والإسهام في مواجهة هذا التحدي الكبير، ومكافحة التنظيمات الإرهابية، وتجفيف منابع تمويلها ومنابر دعمها، وتفكيك خطاب التطرف وتجريده من أسانيده المزعومة.
ولا يقتصر الدور على الوسائل الإعلامية التقليدية مثل الصحف والإذاعة والفضائيات، بل إن هناك وسيلة جديدة أكثر خطورة وأشد تأثيرا، وهي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تجاوزت حدود الرقابة الإعلامية، وأصبحت ضيفا ملازما لأبنائنا وبناتنا، وقد فطنت دوائر الإرهاب إلى خطورة تلك الوسيلة الجديدة التي تتجاوز حدود الدول والقارات، فاستغلتها أسوأ استغلال، واستطاعت بواسطتها تجنيد الآلاف من الشباب والمغرر بهم، عبر الانفراد بهم في غرف الشات المظلمة وصفحات فيسبوك البعيدة عن الأعين، والمحادثات المباشرة التي لا تخضع للرقابة.&
لكل ما سبق فإن مهمة التصدي للفكر المتطرف المنحرف تقتضي اتباع وسائل غير تقليدية، فالخطب المباشرة والنصائح الموجهة لم تعد تجدي فتيلا ولا تجد قبولا لدى شرائح الشباب، وقد فطنت المملكة لتلك الحقيقة فأنشأت مركز اعتدال لمحاربة الفكر المتطرف، الذي يتولى مقارعة حجج الإرهابيين بأساليب متطورة ومتقدمة وباستخدام مفردات عصرية تناسب المتلقين وتراعي مرحلتهم العمرية، بلغات عالمية متعددة، واهتم المركز ببث رسائل مكثفة ومضغوطة لتحصين الشباب، بنهج علمي مدروس، يعتمد على المعلومة والدليل، بعيدا عن الإنشائية واللغة المرسلة، وقد حقق المركز نجاحا منقطع النظير خلال الفترة الماضية.
إن كان هناك من قول أخير فهو يتمثل في ضرورة تعميم التجربة السعودية في استئصال هذا الخطر الداهم، فالمملكة سبقت العديد من الدول المتقدمة في دحر الإرهاب وكسر شوكته، عبر توجيه ضربات استباقية ساحقة لجحافل الشر وطيور الظلام، أسهمت بشكل كبير في إعادتهم إلى جحورهم التي كانوا يختبئون فيها، ولم تقتصر تلك النجاحات على الجانب العسكري فقط، بل إن النصر الفكري الذي حققته المملكة أكبر وأعظم، عبر مراكز المناصحة التي استطاعت احتواء الشباب المغرر بهم، وتنقيتهم من الشوائب الفكرية والخرافات التي عششت في أذهانهم، وأعادتهم إلى مجتمعهم أفرادا صالحين، كما مدت المملكة يدها إلى كافة دول العالم، وبادرت في أغسطس 2014 بدعم المركز الدولي لمكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة ومقره نيويورك بمبلغ 100 مليون دولار، ولا تزال المساعي السعودية في هذا الصدد متواصلة، إيمانا منها بأن الإرهاب هو آفة تستهدف الوجود البشري بأكمله، دون اعتبار لدين أو عرق أو وطن. فإذا أكملنا المهمة على هذا النحو نكون قد أنجزناها بشكل مثالي، وإلا فإن العالم قد يكون على موعد قريب لإعلان ظهور الدواعش في شكل جديد واسم مختلف.
&

&