&زياد الدريس&

حتى زمنٍ قريب، لم يكن الإعلام العربي يولي اهتماماً بالحديث عن صنوف التعصب المتعددة إلا عن التعصب الرياضي. كان يتطرق أيضاً إلى التعصب الديني ولكن لِماماً وعلى تردّدٍ ووَجَل من التأويلات!

كان التعصب الرياضي هو الألطف والأظرف والأخف ضرراً، مقارنة بصنوف التعصب الأخرى. ولذا فقد كان الإعلام يناقش مشكلات التعصب الرياضي على صفحة، ويزيد التعصب اشتعالاً على الصفحة المقابلة، باعتبار أن التعصب فاكهة الرياضة و«بنك» الإعلام.

تغيرت الأحوال الآن، إذ بتنا نعيش زمن التعصب الشامل؛ السياسي والديني والقبلي والثقافي. حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في جعل كل فرد قادراً على التعبير عن رأيه في كل شأن أو مسألة مهما كبرت وتعاظمت. هذه «التساهيل» للإنسان في أن يعبّر عن رأيه في كل شأن، وهو مستلقٍ على سريره، وأن يقول رأيه هذا أمام وجه أكبر مسؤول أو حتى رئيس دولة، وهو مرتدٍ بيجامة نومه، لا يفصله عن فخامته سوى شاشة الجوال. هذه التساهيل أصابت الإنسان بالكثير من الغرور، الذي هو الغذاء الأنفع للتعصب.



أمام هذا التنامي المتعدد الأصناف للتعصب، ظن البعض أن الحل هو في توسيع «صفحات» التعصب الرياضي، حتى تمتص كل إفرازات التعصب البشري. واعتمدت هذه الفكرة/ الحل على تفسير (سيكولوجي/نفسي) بأن لكل إنسان نصيباً فِطرياً من التعصب لا بد للنفس من تفريغه، وإن لم يتم تفريغه واستنفاده في الرياضة خرج في غيرها. وقد غفل هؤلاء عن تفسير (سوسيولوجي/ اجتماعي) للتعصب، مفاده أنك إن تركت الباب مفتوحاً لأحد صنوف التعصب، رياضي أو ديني أو قبلي، فلن تضمن إغلاقه عن الأبواب الأخرى. إذ سيتحول التعصب، الرياضي مثلاً، إلى نمط سلوك اجتماعي يتعاطى من خلاله الجمهور نفس آليات التفكير وأدوات التعامل والتنمّر.

ديمومة التشكّي، وادّعاء المظلومية، والمجاهرة بالانحياز لفريق أجنبي ضد فريق وطني، وتمنّي الضرر الجسدي البالغ للاعب/ الإنسان، كلها أعراض ظاهرية لتعصبٍ سيتفاقم مع الوقت إلى نطاقات أخرى خارج الرياضة، إذا أتيح له ذلك.

لن تتوقف ذهنية التشكيك الدائم في صحة (الأهداف) عند الأهداف التي تتم داخل ساحة الملعب فقط، إذ ستتمادى (ذهنية التشكيك الدائم)، والممنوحة الضوء الأخضر باعتبارها وسيلة فعالة لإشغال الناس وتفريغ نصيبهم النفسي من التعصب، إلى ما هو أكبر وأوسع من مجرد التشكيك في ذمم حكّام المباريات ورؤساء الأندية واللاعبين، بل والجماهير، ليصبح كل شيء وكل أحد قابلاً للتشكيك في صحة عمله ونقائه من الغش!

تَرْكُ الباب مفتوحاً لعموم الجماهير وللإعلاميين المتعصبين للتطاول على حكّام المباريات والتشكيك في ذمّتهم ونزاهتهم وجدارتهم بإدارة العمل في مساحة ملعب محدودة مع ٢٢ عاملاً ولمدة ٩٠ دقيقة فقط، سيتحول إلى نمط أخلاقي في تقييم كافة الأعمال والبرامج والمشاريع والقيادات.

اكبحوا جماح التعصب الرياضي، الذي تمادى كثيراً، واحذروا من مآلاته، وجفّفوا منابعه، فهو إن هيمن على ساحات التفكير والسلوك فسيحيل حياتنا كلها إلى ملعبٍ كبير!
&