&هادي اليامي&

فرس الرهان لتطوير وتحسين أوضاع حقوق الإنسان في الدول العربية هو المجتمع المدني، الذي ما زالت إسهاماته -للأسف- لا تتناسب مع الدور المأمول منه

تحتفل الدول العربية في السادس عشر من مارس من كل عام باليوم العربي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الجامعة العربية، بعد أن دخل الميثاق العربي لحقوق الإنسان حيز النفاذ عام 2008، عقب إقراره في مايو 2004 بقمة تونس، وذلك حتى يكون مناسبة للتذكير بتلك الحقوق، وأهمية نشر قيم التسامح والتعايش، وإعلاء قيمة الحوار والمواطنة، كمدخل رئيس لتثقيف المواطنين بحقوقهم التي تكفلها لهم الدساتير وتحفظها القوانين، والتأكيد على أن حرية كل منهم تنتهي عند الحد الذي تبدأ معه حرية الآخرين.&


وتتباين وجهات النظر حيال حالة حقوق الإنسان في العالم العربي بين نظرة سوداوية مجتزأة ترى السلبيات وتغض الطرف عن الإيجابيات، ونظرة أخرى مغرقة في التفاؤل، وبين النظرتين اللتين اعتاد أصحابهما الوقوف عند طرفي النقيض تكمن الحقيقة التي تستلزم الإقرار في الحاجة الملحة لحدوث التطور المنشود في الرقي بمفاهيم حقوق الإنسان، ومسايرة عدد من دول العالم التي قطعت أشواطا بعيدة في اعتماد تلك المفاهيم وتحويلها إلى واقع معاش على أرض الواقع، وفي الوقت ذاته فإن العدل والإنصاف يفرضان ضرورة النظر في الأسباب التي تقف وراء ذلك التباين، ومحاولة تفسيرها وشرح موجباتها.
للأسف فإن عددا من الدول العربية تعيش من عدة سنوات أوضاعا استثنائية وتعاني حالة عدم استقرار أمني وسياسي، مما يفرض في كثير من الأحيان اتخاذ تدابير استثنائية وإجراءات غير اعتيادية لمواجهة إفرازات ذلك الواقع، لا سيما بعد أحداث ما يعرف باسم «الربيع العربي»، الذي أجزم بأنه لم يكن سوى ابتلاء مرت به بعض الدول العربية التي كانت تعيش في حالة استقرار وأمن، رغم معاناتها من مشكلات داخلية اقتضتها تقلبات السياسة وتحولاتها، لكن لا أعتقد أن هناك من يجادل في أن الأضرار الناجمة عن حالة الانفلات الأمني والمشكلات الاقتصادية التي تعانيها تلك الدول في الوقت الحالي تفوق الإيجابيات التي يزعم البعض أنها قد تحققت عقب الإطاحة بأنظمتها السياسية، فلا يوجد معنى لأي مكسب في غياب الأمن والأمان، ولا قيمة لأي هدف إذا كان الإنسان لا يضمن أن يعود سالما إلى بيته وعائلته في آخر اليوم.
كذلك فإن ظهور وانتشار آفة الإرهاب التي عانتها غالبية دول العالم، ومنطقتنا العربية على وجه الخصوص، يعدّ سببا آخر للتدهور الذي تشهده أوضاع حقوق الإنسان، لأن الظروف التي نشأت عن ظهور تلك المجاميع الإرهابية وما اقترفته من أعمال بشعة بحق المدنيين استلزمت فرض إجراءات احترازية استثنائية قد تتسبب في كثير من الأحوال في تقليص مساحة حقوق الإنسان الأساسية.


وحتى لا يفهم البعض أن ذلك تبرير أو تسويق للتضييق على الحريات والحقوق الأساسية التي لا خلاف عليها، فإن المنطق يفرض التسليم بأن هناك -للأسف- حالة من عدم المبالاة تسود وسط بعض الأقطار العربية فيما يتعلق بتعزيز وتأكيد تلك الحقوق، إما بسبب العجز عن إدراك المتغيرات العالمية، أو قصور النظر إلى ما يمكن أن تجنيه تلك الدول كنتيجة لتعزيز تلك الثقافة الحقوقية التي لها تاريخ طويل في تراثنا الإسلامي.&
في وسط تلك العتمة نجد أن هناك إضاءات مشرقة، ففي المملكة العربية السعودية على سبيل المثال حرصت القيادة على إصدار عدد من الأنظمة والتشريعات الرامية إلى حماية حقوق الإنسان وتعزيزها وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع ونشر ثقافة حقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ ثابت في حماية حقوق الإنسان إيمانا منها بما كفلته الشريعة الإسلامية من مبادئ وقيم سامية تحمي الحقوق والحريات المشروعة، ولعل إقرار تضمين مادة حقوق الإنسان ضمن المناهج الدراسية، يعدّ توطئة لإيجاد أجيال مشبعة بالقيم الجديدة، تدرك ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، وهي خطوة وجدت إشادات واسعة باعتبارها أساسا للوصول إلى نتائج مشرقة.&


وبطبيعة الحال فإن عالمنا العربي في حاجة إلى اتخاذ عدد من الخطوات الإضافية للوصول إلى الحالة المثلى، وتأتي هنا مسؤولية جامعة الدول العربية وخلال السنوات التي شرفت فيها برئاسة لجنة حقوق الإنسان في جامعة الدول العربية، أزعم أن اللجنة بادرت ببذل جهود مضنية لأجل غرس المفاهيم الأساسية لحقوق الإنسان العربية في المجتمعات العربية، وتولت متابعتها في الدول المصادقة على الميثاق عبر دراسة حالة حقوق الإنسان في كل دولة على حدة، وإصدار توصياتها على ضوء ذلك، متضمنة أوجه القصور التي لاحظتها، وطالبت بتعديلها، ولكن آمل أن تلك اللجنة التي أنجزت عددا من المهام في وقت قياسي أن يستمر دعمها كآلية عربية مستقلة ولا يتراجع دورها، علما بأن الأمين العام للجامعة الدكتور أحمد أبو الغيط، وهو السياسي الضليع الذي لا يخفى عليه بطبيعة الحال أهمية تلك اللجنة وما يمكن أن تحققه من نجاحات تصب في اتجاه تهيئة المجتمعات العربية لتحقيق الأهداف المرجوة، لا سيما ونحن نستشرف مرحلة ما بعد القضاء على التنظيمات الإرهابية، واجتثاث إفرازاتها السالبة، مثل التكفير والكراهية والإقصاء، ينتظر منه إعلاء قيمة تلك اللجنة وإزالة ما يعترض طريقها من عقبات، ومد يد العون لها، وحينها فإنني على ثقة أن النتائج والمكاسب ستكون أعلى من أي سقف، وتنعكس إيجابيا على الوطن العربي بأكمله.
وفي يقيني أن فرس الرهان الحقيقي لتطوير وتحسين أوضاع حقوق الإنسان في الدول العربية هو الجمعيات غير الحكومية (المجتمع المدني)، فرغم انتشارها في معظم الدول إلا أن إسهاماتها للأسف لا تتناسب مع الدور المأمول منها، الأمر الذي يتطلب معه تعزيز العمل التكاملي والتشاركي بينها وبين المؤسسات الحكومية ذات العلاقة، بما يدعم دورها في المجتمع ويحقق مزيدا من الإنجازات.

&