& فهد سليمان الشقيران

&

رسخت عملية نيوزيلندا الحالة المشهدية الدموية للعمل الإرهابي؛ وهي صيغة تطوّرت منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وهذا التصوير للعمل الدموي يفتت هيبة الواقع؛ إذ تمتزج فيه الصورة بالعنف... بالكاميرا... بالبث المباشر... باللعبة... يغدو الحدث خليطاً من كل شيء، والواقع ممزوجاً مفتتاً متحللاً، أو مختلطاً مع جدليات وأضداد ونتوءات.


بودريار الذي كتب «أطروحة موت الواقع» عدّ «أننا لسنا بحاجة إلى أن يدمر الفكر الواقع في عصر انتهى فيه الواقع وتحلل ومارس على ذاته تدميراً استراتيجياً لا رجعة فيه. إن ما هو مطلوب من الفكر هو تتبع كيف أن الواقع دخل مرحلة تحلله الذاتي، والكشف عن مسارات التحلل وأشكال الانهيار». والمشهدية دموية بحمولتها التعبيرية المختلطة بالرموز التاريخية، والسلاح السهل، والقتل العنيف، مع تحويل العملية إلى لعبة تضارع الجنون الإلكتروني، وكأن القاتل ينافس الخصوم على تجاوز مرحلة مهمة من لعبة معقدة.
والعملية بدت ضمن نزعة اصطفائية، ضد طقوس وأشكال دينية مختلفة، داخل المسجد في وقت ذروة لصلاة جامعة، ورغم السمة العولمية التي سادت العالم في أواخر القرن العشرين، فإن الألفية الحالية بدت أكثر شغفاً بالعزلة والانفصال. ليست العمليات الإرهابية الأصولية السبب الوحيد لهذا النزوع، وإنما أيقظت تحولات الهجرة والأنصار مشاعر الانفصال والنفي لدى العقائديين الاصطفائيين المتطرفين. يثير هوبزباوم السؤال حين يكتب في «عصر التطرفات»: «لن تكون الصعوبة الحقيقية مع المهاجرين بقدر ما هي مع المحليين، والمشكلات الخطيرة الناجمة عن موجات الهجرة الجديدة إنما برزت في بقاعٍ لم يسبق لها أن تعايشت مع تقاليد رُهابية؛ مثل إيطاليا والبلدان الاسكندنافية».


والحدث حين يقع يطرح معه تحديات جمة؛ إذ ليس ثمة اقتراحات من صورة الحدث لقارئه، وإنما يحتم عليه جملة من التحديات، بحسب فهم مارتن هيدغر، الذي يعدّ أن «الحدث يقدم نفسه على أنه شيء تم اختباره، ولكنه شيء يقاوم أيضاً أن يكون مفهوماً أو قابلاً للضبط، على نحوٍ كلي، بل إن الحدث يعرض لنا حالة لا نكون قادرين فيها على ضبط ما وقع ضبطاً كاملاً. يتجلى أحد أشكال الحادث في مظهره الذي لا يمكن التنبؤ به، وإذا ما كان هناك شيء يمكن التنبؤ به فلا يمكن تفسيره بالتالي على نحو كلي كذلك، وهو ما يبقي الحدث أمراً غير قابل للتكرار... وحيداً، وحر الحركة على نحو ما».
يشير العمل الإرهابي النيوزيلندي الدموي ضد المصلين إلى عمق المأساة البشرية تجاه فهم الآخر، رغم مرور خمسة قرونٍ على بث مفاهيم التسامح، ولم تنجح كل المحاولات التي قام بها رجال الدين والفلاسفة والمفكرون والساسة، ولا البرامج التي دعمتها الإمبراطوريات، ولا سواها من الأعمال والنظريات، في جعل هذا القرن المشبوب بالتقنية والغارق في التواصل وانتفاء الحدود؛ قرن التعايش والتسامح واستيعاب أتباع الديانات بعضهم بعضاً. يبين الحدث مستوى الخلل في فهم بعض المفكرين الأصولية الإسلامية باعتبارهم إياها خاصة بمجتمعات المسلمين... بل في كل مجتمعٍ ديني حمقى ومجانين ومعاتيه تسيّرهم تعاليم موبوءة اصطفائية كارثية دموية تعدّ الآخر هدفاً للعبة السلاح.
أعدّ أن العمل الإرهابي النيوزيلندي بصورته متشابه بمشهديته مع تفجيرات مانهاتن، وقطارات لندن، وحرق الكساسبة، وقتل الجنود المصريين... كلها أعمال دموية تفرض على العالم فتح ملفات التطرفات بكل أشكالها التي تناوئ وجود الفرد، وتحرق الأرض، وتستهدف البشرية في حقوقها الأساسية؛ ومنها الحرية في العبادة وممارسة الشعائر الدينية من دون خوفٍ أو وجل. والرهان على المؤسسات المسيحية في أن تقوم بجهدٍ حثيث لوضع شرحٍ لمسببات العمل. نعلم أن «الإرهاب لا دين له»... عبارة مكررة إعلامياً إلى حدّ الملل، ولكننا نريد وضع شرح وافٍ لنوعية هذا العنف وأدبياته وأسسه لتلافي تكراره لاحقاً.


الباحثون المسلمون وضعوا ملفاتٍ مهمة، وفتحوا أضابير أدبياتٍ عنيفة مهملة، قادتهم إرادتهم الحثيثة لفهم ومقاومة العنف الذي قادته الأصوليات منذ أعمال العنف الأولى في الستينات من القرن العشرين وحتى تنظيمات «القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام»... وبقية التنظيمات الإجرامية، بغرض فهم أصولها، وأدبياتها، وتاريخ مؤسسيها، وأهم المرتكزات النظرية، والعقائد، والأهداف المشمولة ضمن استراتيجيات كل تنظيم. وعلى الآخرين القيام بمثل ذلك الجهد.
إنها حادثة دموية نوعية، أثارت الرعب في العالم، فحين تنتهك دور العبادة، فإن بقية المؤسسات لن تكون خارج مرمى العنف... إنها أيادي الشر المتشابهة التي تريد لهذا الكوكب أن يكون ثكنة عسكرية مملة. ذلكم هو الخطر، وتلك هي الكارثة.

&