«منامة القصيبي» وذاكرة من حي الفاضل

&بدر عبدالملك

&انتشر بفرح غامر خبر تحويل بيته /‏ بيتهم، مسقط رأس الشاعر الدكتور غازي القصيبي في حي الفاضل إلى معلم ثقافي شامخ، تحويل بيت الطفولة والصبا الى تحفة فنية، هذا الى جانب كونه معمارًا أصيلاً ينتمي الى بدايات القرن المنصرم، كواحدة من بيوت الأعيان المعروفة في المنامة كلها وليس حي الفاضل وحده، فانتماء هذا البيت البحريني هو انتماء الشاعر نفسه لمعاني تجاوزت الجغرافيا، فتجذر مشاعر الانسان ووطنية المعنى ليست مجرد جنسية وجواز سفر في جيوبنا هي الانتماء الاول الوراثي، فيما ظل لمعنى الوطن أبعاد عدة متنوعة كتنوع الهوية ذاتها فنحن ننتمي للمكان لبيوت الألفة لحنين عميق في الطفولة لتربة الحي وحدود أزقته ثم تكبر في داخلنا تلك المعاني السياسية والجغرافية للانتماء، كان غازي ملتصقًا بروحه وكيانه بتلك الذكريات الاولى من حياته المدرسية والحي، ملتصقة المنامة في عمقها وحي الفاضل بتلك الجماعات الصغيرة من أصدقاء الطفولة.
طوحت الدنيا بغازي الإنسان نحو مدن ومرافئ وعواصم، ومن وهج الصحراء والرطوبة الى عوالم الضباب والسحب الرمادية الداكنة، ذلك الرحيل العميق والطويل والمتنوع، لم يكن قادرًا على انتزاع روح غازي من الحي والمنامة، من الحنين المستحكم بوجدانه، ولم تكن «شقة الحرية» قادرة على استنزاف دواخله نحو سرديات حالمة، متلاطمة كما هي مدينة القاهرة.


كانت أجنحة الرحيل بدلاً من أن تدخله عالم النسيان بمسقط الطفولة كانت على العكس من ذلك، فقد ظلت الساعات بكل ثوانيها تحفر ببطء في روحه وعقله مشاريع الحياة والامل، لم تقذفه أمواج الوظيفة ولا انتزعته كل المهمات التي عرفها في حياته عن العودة للمنامة، حين يشده الشوق والحنين الطفولي إليها، لأصدقاء ثانوية المنامة، أصدقاء الحي الذي احتضنت جدرانه صراخ أولئك الصبية والعصافير الصغيرة، لم يكن يدرك أحد منهم أن من بينهم هناك صبي قابع في داخله صوت شاعر حالم، صوت سوف يسكنه الرحيل والتنقل والعذابات الصامتة لمشاهد عصره وزمنه، لقد سكنت القصيبي حساسية الشاعر وعواطفه وصرامة السياسي وحزمه ومرونته في دهاليز الدبلوماسية، فعمل دون غبار وزوابع وكم من مرة قال كلمته وغادر مقعد الوظيفة، فغازي من نمط اصدقائه في المنامة، أصدقاء المدرسة، جميعهم اختاروا نهج العطاء للوطن والناس بطرقهم، وقد تخلوا عن رنين الشعارات والحماس.
ربما جيلنا لم يفهم جوانب كثيرة من شخصية الجيل الذي سبقنا، فقد كان الغضب يعترينا من كل شيء فلا نجد إلا تلك الشوارع الساخطة، فيما كان ذاك الجيل أكثر تأملاً وأسئلة حول متاهات المستقبل، أسئلة حول حاضر الانكسارات وماضي الخيبات، كان على الشاعر عبدالرحمن رفيع (أحد أصدقاء وجلساء الشاعر غازي القصيبي ومن جيله) أن يظل ساخرًا فملاذ السخرية أصعب ومؤلم حين لا يمكنك قول ما تريد وتعجز في التعبير عما في أعماق روحك.


هل كان مفارقة أن يلجأ كل واحد منهم نحو الشعر بطريقته؟ نترك السؤال لمن يودون البحث عميقًا في ظواهر كثيرة مدفونة في «منامة القصيبي» تلك المنامة التي ليست مجرد بيت من الطين وحسب وإنما روح وإحاسيس ومشاعر سكنت في زوايا ذلك المكان، في فضاء المنامة الواسع الممتد من الشمال نحو البحر، الذي حين نكتشفه من بعيد اليابسة تتفجر زرقة السماء فقد كانت الجزيرة منذ ولادتها الاولى ترضع من ثدي تلك الصحراء المجاورة بكل سخونة رمالها وكنوزها الخفية.


بين مسافة المكانين «الوطنين» الجغرافيا والإحاسيس والانتماء، كان غازي شاعرًا لا ينتمي شعره لأحد ولمكان وفي ذات الوقت كان ينتمي للجميع.. ينتمي «لمنامة القصيبي» فهي ذاكرة حي الفاضل. دون الحاجة لإسداء المديح المبتذل، لكل تلك المشاريع التنويرية الخيرة، بتحويل تلك البيوت الى معمار جديد حي، يضج بتاريخ ناصع، لتاريخ بيت وطفولة وقصائد. بتحويل تلك الطاقات الميتة المهجورة المنسية الى عالم مثير للفرح، حين تنجح الشيخة مي هذه المرة بتحويل بيت الشاعر الى بيت لكل الناس، بيت تتمازج فيه ثقافة المعمار والبياض الروحي بضرورات الثقافة الحية الممتدة في عالم السياحة والتجديد، فالثقافة السياحية او السياحة الثقافية باتت في عصرنا جزءًا لا يتجزأ من تطلعات الانسانية نحو التلاقح الحضاري، لذا تعمل اليونسكو كثيرًا على تدخلها المباشر في الحفاظ على الكنوز الوطنية وثرواتها على انها ملك عالمي علينا الاهتمام به.


من هذا المنظور، من الضروري تعميق وتركيز الاهتمام بمخزون بيوت الفاضل وبيوت أحياء أخرى في المنامة، فكل حجر فيها هو غناء جماعي للوطن وثروته القادمة. وتدلل تلك المشاريع الثقافية على حقيقة مهمة هو ضرورة مساهمة الأثرياء والمؤسسات المالية ولو بقسط بسيط من ثروتها في رفد ودعم مشاريع ثقافية كما هو «منامة القصيبي» فقد كان لتبرع الوليد بن طلال قيمته الفعلية، بحيث عكس سخاء التبرع نفسه في جمالية المكان وتحويله الى تحفة فنية تليق بالشاعر وبالحي وبالعاصمة.