بول والدمان

قبل 16 عاماً، وتحديداً يوم 20 مارس عام 2003، غزت الولايات المتحدة العراق. وبعد حملة دعاية استمرت شهوراً ولم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل، أيدت غالبية من الأميركيين خوض الحرب. فقد عكفت إدارة بوش تخبرهم أن الحرب هي وقاية لهم، لأننا إذا لم نغزُ صدام حسين، المحتمل ضلوعه في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإنه سيهاجمنا بترسانته الرهيبة من أسلحة الدمار الشامل. وحينها صرح نائب الرئيس ديك تشيني قائلاً: «ببساطة، لا شك في أن صدام حسين لديه الآن أسلحة دمار شامل. ولا شك في أنه يجمعها ليستخدمها ضد أصدقائنا وحلفائنا وضدنا».
لكن اتضح أن هذا كان أسوأ كارثة في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية. فقد لقي 4500 أميركي حتفهم، وأصيب 32 ألفاً بجروح، وأُنفقت تريليونات الدولارات، وانزلقت منطقة الشرق الأوسط في حالة من الفوضى، وكان صعود «داعش» في نهاية المطاف من نتائج الغزو هذا، بالإضافة إلى مقتل مئات الآلاف من العراقيين. فماذا تعلمنا؟ تعلم «الديمقراطيون» عدداً من الأمور. فقد تعلم عدد منهم، ومن بينهم شخصيات مثل هيلاري كلينتون وجون كيري، أن محاولة الظهور بمظهر القوي من خلال دعم المغامرات العسكرية لا يؤدي إلى الظهور بمظهر القوي. وتعلموا أن أسوأ مخاوفهم بشأن هذه المغامرات قد تتحقق.
لكن القصة اختلفت لدى «الجمهوريين»، ودونالد ترامب هو الوحيد تقريباً في حزبه الذي تعلم أننا لا نريد شيئاً مثل هذا مرة أخرى. ومن المؤكد تقريباً أنه توصل إلى هذا الاستنتاج لأسباب خاطئة غالباً لكنها كانت واحدة من الأفكار القليلة لديه التي نفعت أكثر مما أضرت. وبقية حزبه لم يتعلم هذا. وربما تلاشي من ذاكرة معظم الناس الآن أن الحزب «الجمهوري»، في الانتخابات التمهيدية الرئاسية لعام 2016، كان محاصراً بسؤال العراق، خاصة إذا ما كانت الحرب قد مثلت خطأ. وبرغم أن كل شخص عاقل في البلاد كان يعلم بوضوح أن الحرب كانت خطأ لكن من الصعب أن يقر بهذا من يسعون إلى قيادة الحزب، لأن حزبهم برمته كان على أقصى ما يكون من الحماس في ذاك الوقت للفكرة، والإقرار بخطأ الحرب كان يعني في الحقيقة انتقاد الرئيس الجمهوري السابق.
وكان هذا صعباً على جيب بوش، شقيق الرئيس «الجمهوري» السابق. ومعظم المرشحين اكتفوا بترديد فكرة مفادها: «لو كنا نعلم ما نعلمه الآن لما غزونا»، وفي هذا إلقاء باللائمة على المعلومات الاستخباراتية المغلوطة من دون مراجعة لحماقة الأفكار والعجرفة التي قادتنا بالفعل إلى خوض الحرب. لكن ترامب كان استثناء. صحيح أن ترامب ردد مزاعم عن معارضته بصوت مرتفع للحرب عام 2003. بل وزعم أن معارضته كانت قوية لدرجة أن إدارة بوش أرسلت وفداً إلى نيويورك كي تطلب منه تخفيف حدة لهجته. والواقع أنه لم يقل شيئاً علناً تقريباً عن الحرب ولم يعارضها. لكن بحلول عام 2015، كان ترامب يقول ما لم يقله «جمهوري» آخر. ففي مناظرة في ديسمبر 2015 قال ترامب: «لقد تسببنا في أضرار هائلة ليس فقط في الشرق الأوسط بل تسببنا في أضرار هائلة للبشرية. هناك أشخاص قتلوا وأشخاص تم محوهم... ومن أجل ماذا؟ الأمر لا يبدو كما لو أننا حظينا بنصر. إنها فوضى، الشرق الأوسط مزعزع الاستقرار تماماً وفي فوضى كاملة وتامة. أتمنى لو كان لدينا أربعة أو خمسة تريليونات دولار. وأتمنى لو أنها أُنفقت هنا في الولايات المتحدة على المدارس والمستشفيات والطرق والمطارات، وكل شيء آخر يتداعى».
وخاض ترامب السباق على منصب الرئيس معتمداً على قوله إنه لا يريد أن يتورط في مزيد من الغزو، أو في أمر مثل حرب العراق. لكن هذا لم يكن بسبب قلقه بشأن المعاناة البشرية أو تهديد المصالح الأميركية، كانت وجهة نظره تتعلق بشكل أكبر، بأنه لن يغزو مكاناً لنشر الديمقراطية، ولن يؤيد عملاً عسكرياً لوقف عملية تطهير عرقي.


وفي كل مرة يتحدث فيها ترامب عن الدور العسكري الأميركي حول العالم، يصرح عادة أن دولاً أخرى يجب أن تدفع لنا مقابل الاحتفاظ بهيمنتنا سواء كان هذا حلف شمال الأطلسي أو كوريا الجنوبية أو أي جهة أخرى. فكل شيء صفقة، وإذا لم يستطع ترامب رؤية مكسب آني قصير الأمد فلن يهتم بالأمر. وبتأمل الماضي، لا تعد رؤية ترامب تلك أسوأ مبدأ في السياسة الخارجية. فقد كان جورج بوش هو من أظهر لنا أسوأ مبدأ في السياسة الخارجية، وهو الاعتقاد الساذج بان أي مشكلة تقريباً يمكن حلها بإرسال ما يكفي من العتاد ومن دون الاهتمام بالسياسة الداخلية للبلاد التي توشك الولايات المتحدة على غزوها، والعملية ستجدي نفعاً في نهاية المطاف إذا توافرت الإرادة الكافية.
وهذا لا يعني أن ترامب لم يرتكب أخطاء في السياسة الخارجية، فقد أضر بصورة أميركا في العالم، ودمر تحالفاتها المحورية، وانسحب من مساعي تعاون دولية مهمة. لكنه حتى الآن على أي حال لم يغز أي بلاد، مثيراً بلا شك غضب بعض مستشاريه. لكن لا يوجد دليل بالتأكيد على تعلم أحد من الحزب «الجمهوري» أي شيء من كارثة العراق. والرئيس «الجمهوري» التالي سيكون على الأرجح حريص على شن غزو أو اثنين. ولا نسمع أحداً من «الجمهوريين» يتكلم عن الدروس المستفادة من حرب العراق، لأنهم لا يستقون منها أي دروس. وداخل الحزب «الجمهوري» مازال ينتعش مبدأ بوش أو على الأقل ذاك الجزء منه الذي ينطوي على اعتقاد أن القوة العسكرية الأميركية أداة مفيدة لتشكيل العالم كيفما نريد والعواقب غير المقصودة ليست مدعاة للقلق في الواقع. وهذا المبدأ معطل فحسب في الوقت الذي يتولى فيه ترامب زعامة الحزب.


* كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»


&