& عبد المنعم سعيد

&

انتهت الانتخابات الإسرائيلية بالنتيجة المتوقعة، التي تعطي بنيامين نتنياهو فترة نيابية أخرى، ربما يكون فيها بعض المشاكسات القانونية، حتى يمكن الحكم عليه، إلا أن الحقيقة الماثلة أن توجهاً سياسياً يمينياً متطرفاً سوف يحكم إسرائيل خلال الفترة المقبلة.&
ولعل ذلك لا يمثل إحباطاً بالضرورة، فلم يكن فوز الطرف الآخر، بما فيه من مجموعة «جنرالات إسرائيل» يعني اختلافاً كثيراً عما هو الحال الآن؛ فالحقيقة هي أن المجتمع الإسرائيلي انتقل بأكمله إلى موقع في أقصي اليمين، ما جعل اليمين «المتطرف» قريباً من الشرعية للغاية. المسؤولية عن ذلك ليست إسرائيلية محضة، فبشكل ما، التفاعلات الإسرائيلية الفلسطينية تركت بصمات كل طرفٍ فاقعةً على الطرف الآخر، وكانت في الحالتين بلون التطرف.


ما يهمنا هو؛ ماذا بعد؟ إجرائياً، فإن حسابات فوز نتنياهو لا تضع أمامه عقبات في وضع التشكيل الحكومي. ومن ناحية أخرى، فإن التشكيل الحكومة كان هو موعد العرض الأميركي لصفقته الجديدة. لاحظ هنا أن الأميركيين لم يتحدثوا قط عن استئناف عملية السلام؛ وأن رد فعلهم على الأحاديث العربية عن «الشرعية الدولية» ومخطوطات مفاوضات الحل النهائي وما سبق التوصل إليه، حتى وديعة رابين، لا يبدو أنها تعني كثيراً لأصحاب التحرك السياسي المستجد على الساحة. بالنسبة للجانب العربي، فليس ضرورياً أن تكون هذه اللحظة، بما فيها من التباس وإثارة، جديدة تماماً، ففي عام 1977 فاز مناحيم بيغين في الانتخابات الإسرائيلية، ولم يكن الرجل مقصراً في التعبير عن تطرفه، خاصة بعد ما أحدث من انقلاب في السياسة الداخلية الإسرائيلية.
كانت نتائج حرب أكتوبر (تشرين الأول) قد بدأت في الشحوب، وكانت الحرب الأهلية قد بدأت في لبنان، ولم يكن الفلسطينيون وقتها يعرفون من منهم أكثر مسؤولية عن تصفية القضية الفلسطينية. أنور السادات كان وحده قادراً على عبور الزمن، والتفكير فيما لا يمكن التفكير فيه، ويأخذ المبادرة التي بعدها تترتب استجابات الأطراف المختلفة حتى توصل إلى الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المصرية، ووضع إطاراً صار هو الحاكم لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي خلال العقود الأربعة التالية، بما فيها من حروب وتسويات ومعاهدات سلام.
الدكتور محمد عبد السلام نشر افتتاحية في دورية «اتجاهات الأحداث» (العدد 29) التي يصدرها مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، في أبوظبي، بعنوان «End Game»؛ هل يمكن أن يحل الصراع العربي الإسرائيلي هذه المرة؟ والمقصود بهذه المرة المحاولة الأميركي للتعامل مع الصراع، التي يفترض أنها في الطريق إلى الطرح بعد انتهاء تشكيل الوزارة الإسرائيلية. الافتتاحية تتتبّع الصراع في مراحل ثلاث؛ أولاها أنه غير قابل للحل، إما لأنه «وجودي»؛ أو لأنه «مركزي»؛ أو أن فيه لمحات من القضاء والقدر. وثانيتها أنه صعب الحل، حيث تبدو القضية هي التوفيق بين مصالح مختلفة. وكل ما تحتاج إليه رغبة في التفاوض، ووسيط يحترمه الأطراف، لديه ما يغري ويعاقب، وبعد ذلك الزمن. في ظل ذلك كانت مؤتمرات جنيف ومدريد، وما سبقها وتبعها من قرارات دولية، ومفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، والخلط ما بين «تعريب» القضية الفلسطينية، وجعلها فلسطينية إسرائيلية محضة. وثالثتها أنها قابلة للحل. وإذا كانت المرحلة الأولى قائمة على التاريخ والقيم (العدالة والحرية وحق تقرير المصير)، والمرحلة الثانية تقوم على الجغرافيا السياسية بعد خلطها بالجغرافيا الاقتصادية، فإن المرحلة الثالثة ترى أن قضايا الصراع يمكنها كلها بأن تتحول إلى وظائف ضرورية للمجتمعات، إذا ما تمَّت تلبيتها، فإنه لا مجال للصراع. المثال المضروب للتوضيح هو أنه إذا اختلف طرفان على مياه نهر، فإنهما يمكنها الصراع على أساس من الحقوق التاريخية أو التفسيرات المناسبة لقوانين الأنهار؛ ولكن إذا كان الأمر هو توفير المياه للشرب والري، فإن التكنولوجيا يمكنها توفير الكميات المطلوبة من تحلية مياه البحر وأكثر. عرض ترمب المتوقع سوف يكون في هذه الدائرة من التفكير.


الافتتاحية على هذا النحو ربما لا تكون موفقة في أن يكون عنوانها «نهاية المباراة»، أو على الأقل المباراة الشائعة في التاريخ المعاصر للصراع العربي – الإسرائيلي، وإنما هي بداية مباراة أخرى، على الأطراف العربية أن تستشفّها، كما فعل السادات من قبل.
بالطبع، فإن التاريخ لا يعيد نفسه، ومفاجأة السادات بزيارة القدس التي فتحت الطريق لكل ما تلاها ربما لا يمكن تكرارها الآن؛ ولكن المجال كبير للاجتهاد والبحث في عروض لا يمكن للطرف الآخر رفضها. وما هو شائع حتى الآن هو وجود 4 أطروحات كبرى. أولاها بقاء الأوضاع على ما هي عليه، بمعنى استمرار الهيمنة الإسرائيلية في شكلها الحالي، مع تحسين أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية، وإعطائهم مزيداً من الحريات، الحركة في المنطقتين A وB، مع السماح لهم بمطار وميناء في غزة، مقابل الوقف الكامل والشامل للعنف لفترة زمنية، يمكن بعدها إشهار الدولة الفلسطينية في المنطقتين، بالإضافة إلى غزة. الدائرة هنا تدور داخل ترتيبات الأوضاع الجيوسياسية بين الطرفين. وثانيتها الصفقة المطروحة في مبادرة السلام العربية المشهرة في 27 مارس (آذار) 2002 من قبل الجامعة العربية، وبمقتضاها تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، مقابل التطبيع الكامل مع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية. وهي صيغة جيوسياسية أخرى، بعد خلطها باحتمالات جيوقتصادية، دارت داخل دائرة المفاوضات متعددة الأطراف السابقة. وثالثتها أن تقوم صفقة على أساس قيام دولة واحدة تضم الفلسطينيين والإسرائيليين، استناداً إلى الأوضاع الحالية التي وضعت بين نهر الأردن والبحر المتوسط 12 مليوناً من البشر، نصفهم من اليهود، ونصفهم الآخر من العرب الفلسطينيين، يمثلون وحدة أمنية واقتصادية (العمل والعملة والضرائب) واحدة؛ ومن ثم فإن الصفقة سوف تقوم على أسس التعايش المشترك. والدائرة هنا ترجمة لما هو واقع إلى ما هو محتمل من تعايش سلمي ومساواة. ورابعتها هو ما طرح تواً عن «السلام الوظيفي» الذي ربما بدأ قبل أن يفكر ترمب في مبادرته، عندما شكلت مصر «منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط»، الذي ضمّ مصر وإسرائيل والأردن وفلسطين وقبرص واليونان وإيطاليا، وهو إطار يدور حول الغاز والبترول وأساليب نقلها وتسييلها وتصديرها وتصنيعها أيضاً.


الحلول الوظيفية تخص البشر أكثر مما تخص الدول، ولم تكن لدى فلسطين أو إسرائيل مشكلة أو معضلة تاريخية حين المشاركة سوياً في المنتدى، لأن القوانين الحاكمة لا يوجد غيرها في إدارة مثل هذه السوق، مثل قانون البحار، وترسيم الحدود البحرية، وملكية أنابيب الغاز، وقواعد التصدير، وغيرها.
المسألة الرئيسية هنا أنه أياً كانت الاختيارات، أو التوليفة بينها، فإن الأساس فيها أن الأمر الواقع الراهن غير قابل للاستمرار، دون حروب دورية، وعدم استقرار، يولد التطرف والتعصب، ويحرم الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من العيش بصورة طبيعية.

&