&محمد المختار الفال&&

التجربة السياسية في السودان، منذ الاستقلال، تمضي في دورات متكررة، تتبادل فيها السلطة، حكومات مدنية، وأنظمة عسكرية، لكنها تتفق، جميعها، على الإخفاق في تحقيق التنمية، وكانت النتيجة تآكل مساحة البلاد، وتنامي النزعات الانفصالية والنعرات الإقليمية، وتراجع الحريات العامة، وبروز الطائفية والإقصاء الديني. وأبرز الدروس المستفادة، وهي كثيرة للمتأمل، فشل «الايديولوجيا» الحزبية والانظمة العسكرية في النهوض بالبلاد وتطوير مسيرتها واستغلال ثرواتها لخدمة أهلها وتوفير العدالة وضمان الحريات، على رغم رفعها شعار «وحدة الوطن» وهو الشعار الذي، تحت مظلته غابت العدالة وتعاظمت الفروق التنموية، وبرزت الخلافات الاثنية والدينية والطائفية، وبحجته أهدرت الحريات وتراجعت العدالة الاجتماعية، وقد انتهت كل تلك الأنظمة إلى طريق مسدود.


وإذا استثنينا السنوات الأولى بعد الاستقلال، التي انشغل فيها السياسيون قليلو التجربة بالصراع الذي جاء بالحكم العسكري، مع موجة الانقلابات التي اجتاحت العالم العربي في النصف الثاني من القرن الماضي، نجد أن السودان تعاقب على حكمه عسكريون، ضاقوا بالمماحكات الحزبية وانشغال المدنيين عن التفاعل مع المهددات المصيرية، إبراهيم عبود، وعسكريون «ايديولوجيون»، نميري والبشير، تتخفى وراءهم أحزاب عقائدية، الشيوعيون والإسلاميون. وحكم إبراهيم عبود لم تطل مدته، نسبيا، سبع سنوات، وقضى معظمها في مواجهة حرب الجنوب ومعالجة ضعف الإدارة الوطنية الخارجة من الاستعمار والتعامل مع شبكة المصالح التقليدية من مشيخات صوفية مسيسة وأوضاع قبلية أورثها الإنكليز نوعا من الاستقلال عن الحكومة المركزية مع مميزات ومنافع يصعب التخلي عنها قبل توفير البديل، والسودان «قارة» بمساحته وتنوع أعراقه وقبائله وتعدد أديانه وتباين لغاته وما يصدر عنها من لهجات، والسلطة المركزية لم يكن لها تأثير قوي في الكثير من مجالات الحياة قبل موجة الجفاف التي اجتاحت أفريقيا أوائل السبعينات، وكان من حسن حظ النظام العسكري، في تلك الفترة، أن غالبية السودانيين كانوا مستغنين عن الحكومة، وكانت هي مكتفية بإظهار وجودها، من خلال المراكز الحكومية والمدارس الإقليمية ومستشفيات المدن الكبرى ومراكز صحية في القرى، وبناء علاقات حسنة مع الزعماء المحليين وشيوخ القبائل لمساعدتها على ضبط النظام العام وحل الخلافات بين الناس وفق أعراف تقليدية تحتكم إليها الغالبية، وكان الوجود الحقيقي للحكومة في العاصمة، حيث الجامعة الوحيدة، وبعض عواصم الأقاليم، وكانت حياة الناس، في العموم، لا تتأثر بالصراع السياسي بين القوى الجديدة الصاعدة والقوى القديمة الموروثة، وقد تكونت في القلب مجموعة من المتعلمين والمثقفين يشعرون بتميزهم عن غالبية مواطنيهم وأنهم المسؤولون عن قيادتهم وتوجيههم.

ومثل كل المجتمعات التقليدية ترك المستعمر مراكز لأهل التأثير الشعبي، رؤساء قبائل وبيوتات دينية ومشيخات صوفية يتبعها الكثيرون، وبمرور الوقت وتفاعلا مع الواقع الجديد تحولت تلك المراكز إلى أحزاب سياسية أو انبثقت عنها مستفيدة من قواعدها الشعبية التي تسير، طاعة لها، ولا تسأل عن الهدف أو المصلحة، ولكن هذا الواقع واجه تحديات جديدة، بعضها من داخله وبعضها من خارجه، برزت شخصيات عصرية من رحم المؤسسات التقليدية، تلقت تعليمها في أرقى الجامعات ولم تعد قادرة على الانسجام مع تراتب المسؤولية والقيادة على النمط القديم، وفي الوقت نفسه تدرك أن مصدر قوتها وثقلها نابع من «الولاء الموروث»، أما التحدي الخارجي فكان بروز قوى «أيديولوجية» جديدة متصارعة، بعضها وافد لا جذور له، وبعضها «محدث» من ثقافة ودين الأغلبية، بدأ الصراع الجديد مع دخول الفكر اليساري، الشيوعي بالأخص، وتصدي التيار اليميني له، «الإخوان المسلمون»، ومن يدور في فلكهم، ولم يكن للأحزاب التقليدية أن تغيب عن هذا الصراع أو تتأثر به، وكانت ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964 فرصة لترجمة الصراع بين الشيوعيين و«الإخوان المسلمين» وإبراز قوتهما في الحياة السياسية، وبالأخص بين الطبقة المثقفة والنقابات المهنية، فقد برزت «الايديولوجيا» عاملا شديد التأثير في تحريك الشارع لمواجهة الحكم العسكري، نشط الحزب الشيوعي في قواعده التقليدية، النقابات والتجمعات الطلابية، وتحرك الإسلاميون في الجامعة والمدارس الثانوية الداخلية والمساجد، وكانت النتيجة سقوط الحكم العسكري ومجيء الصادق المهدي رئيسا للوزراء، وهو الممثل لأنموذج القيادة التي تجمع ما بين الحديث والقديم، شاب متخرج في واحدة من أرقى الجامعات الغربية (كامبردج) وخلفه تراث «المهدية»، ببطولاتها وتصوفها وتضحيات أتباعها، وبقي أهل «الايديولوجيا» في دائرة الشغب، المعارضة النشطة، لأنهم هم الذين يحركون القوى الحديثة في الشارع السوداني، يسيطرون على الجامعة والصحافة ومتغلغلون في التعليم والنقابات، ولم يستطع، رئيس الوزراء الشاب (27 عاما)، قليل الخبرة، بأدواته التي تختلط فيها حيوية عصرنة التعليم بتثاقل الموروث ورتابة حركته، أن يبحر بسفينة الحكم بين صخور المشاكل، و«الايديولوجيون» يتربصون به في كل منعطف، وكانت النتيجة المحتومة: تراكم المشاكل وتأزم الأوضاع وخلق مناخ صالح لمجيئ دورة عسكرية جديدة، ونجح انقلاب اليساريين بقيادة النميري، بين عشرات ما كان يدبر في الخفاء من الآخرين، ووجه البلاد إلى المعسكر الشرقي، وفي ومراحل تالية بدأ التخبط فارتدى جبة «الأسلمة» وأدخل أعداءه في بيته لينقلبوا عليه، مع آخرين، فيما بعد وكان الضحية، في كل هذه المسيرة العرجاء، قضايا الوطن وحقوق المواطن، حتى جاءت انتفاضة 1985 التي أعادت الحكم للمدنيين بعد عام، حين وفّى سوار الذهب بوعد (سيظل هذا الضابط الشريف شامة في تاريخ العرب المعاصر) وتكررت التجربة، صناديق الاقتراع تعيد الصادق المهدي إلى الحكم، بعدما ظن الكثيرون أنه اكتسب خبرة كافية لتجاوز أخطاء الماضي، لكن النتيجة لم تكن في صالحه، ولعله من الإنصاف أن يقال ان المشاكل التي تراكمت على السودان، من 1964 إلى 1986 لم تترك لمن يحكم من الأدوات والوسائل ما يمكنه من مواجهتها، وهكذا انتهت تجربة الصادق المهدي الثانية إلى سباق الانقلابات الذي نجح فيه الإسلاميون بتقديم العقيد عمر البشير واجهة لحكمهم يوم 30 حزيران (يونيو) 1989، والقصة بعد ذلك معروفة، حكم «أيديولوجي»، دخل في صراعات داخلية وخارجية أدت إلى انفصال الجنوب وظهور حركات انفصالية في دار فور والبحر الاحمر ومناطق أخرى وظهر البترول وشهد تحسنا في التنمية لكن أساء لأثرها الإيجابي، غياب الحريات واقصاء الوطنيين المختلفين مع أهل الحكم.

هذه التجربة الممتدة لأكثر من 60 عاما، تعطي خلاصة مفادها أن «الايديولوجيا» فشلت في إدارة هذا البلد، الغني بثرواته الطبيعية والثقافية: الماء والأرض والقوى البشرية والطاقة، الجسر الرابط بين ثقافتين كبريين: العربية والأفريقية، فشلت «الايديولوجيا» الضيقة في إذابة الطائفية وتقليص التنافر الديني ونشر العدالة وبسط الحريات. ويبقى السؤال: هل وعى السودانيون الدرس؟ هل توافرت القناعة لدى النخب أن الخروج من دوامة «الديموقراطيات الأيديولوجية» والانقلابات العسكرية، يستدعي توافقا عاما يحفظ للوطن تعدديته العرقية والدينية والثقافية في ظل نظام يجعل أولويته التنمية وتحسين مستوى حياة الناس وبناء علاقات مع العالم على أساس المصالح وتبادل المنافع، بعيدا عن التجاذبات والمحاور؟

درس يستحق التأمل، على رغم أنه كلف هذا الشعب الأبي الكريم الشيء الكثير.