ندى حطيط

قلِق فيكتور هوغو - روائي فرنسا الأشهر – كثيراً، لما بدأت الكتب المطبوعة في الانتشار الواسع بأيدي الناس خلال القرن التاسع عشر. لقد كان يخشى أن يستسهل المبدعون العباقرة إيداع روائعهم في وسيلة التواصل الاجتماعي والفكري الجديدة، التي تسهل مراقبتها ومصادرتها وتغييبها، أي الكتب، وينفضوا عن فنون المعمار التي بقيت عبر تاريخ الحضارة وحتى قبل اكتشاف الطباعة، سجلاً عابراً للأزمنة واللغات والثقافات، لكل مغامرات البشرية التي بلغت أقصى حدود الخيال، وبقيت عصية على المراقبة والمصادرة والتغييب. كانت الأبجديات قد كتبت على جدران من حجر، واصطفت حروفها صفوفاً كما أبيات القصائد، بينما شمخت الأعمدة الصاعدة إلى عنان السماء كما هيروغرافيات حبلى بالمعاني الممكنة.

هوغو وقتها كان يرى رأي العين كيف تنفضّ الجماهير رويداً رويداً عن زيارة كاتدرائية سيدة باريس الشهيرة، التي بقيت لقرون كتاباً مفتوحاً للفقراء، وحديقة تحلق فيها أرواح العاشقين وميناء لكل مسافر أعياه السفر.

وبدلاً من ارتداء أفضل ملابسهم، واصطحاب أغلى أحبائهم لزيارة معلم باريس الأجمل، أصبح كثيرون يقضون أوقاتهم منعزلين وحيدين، وهم يحملقون فيما يشبه شاشة من ورق يحملونها في أيديهم، دونت فيها نتف إبداع سهل رخيص قصير العمر، خاضع لرقابة السلطات ورغبات الناشرين وحسابات التجار.

وقتها، كانت نوتردام الجليلة المتربعة في قلب عاصمة الأنوار، قد تجاوزت بداياتها ككاتدرائية مكرسة للتعبد، وأداء طقوس دينية لطريقة من البشر، وأصبحت بمثابة نقطة تلاقٍ سحرية بين السماء والأرض، وبين النور والظلمة، وبين الحياة والعدم، تجمع أجيال البشر المتتابعة من كل الثقافات والأديان، في فضاء مشغول كقماشة ملونة مبهرة، من أحلام وضحكات وآهات وصلوات وتنهدات، وآلام دفينة كثيرة.

لكن سخرية القدر انتصرت على قلق هوغو، فكان هو ذاته الأديب الذي خلد نوتردام – العصية على التدنيس وحكم الزمان كما سماها – في كتاب مطبوع، فجعل منها ملحمة عبقرية نقلت عبق أنفاس جدران كاتدرائية التنهدات البشرية، وتلألؤ زجاج أيقوناتها تغنجاً بالأنوار وإغواء للشمس، إلى كل من يقرأ، ولو لم تطأ قدماه باريس يوماً.

كانت تلك روايته الشهيرة عن قصة الحب المروعة المعروفة في العالم الأنغلوفوني بعنوان أول ترجمة لها، أي «أحدب نوتردام».

وكانت ترجمة إنجليزية رديئة، وكأن صاحبها لم يحظ يوماً بالمثول أمام سيدة باريس العظيمة. فالنص الفرنسي (صدر عام 1831) عنونه هوغو ببساطة «نوتردام باريس» وجعل فيه من الكاتدرائية بطلاً صامتاً ومسرحاً يشهد بعطف على تعاقب الأزمنة، وتقلبات حياة بشر باريس العالقين في لحظة من التاريخ، لم يكن لمؤرخ أن يلتقطها بكل تفاصيلها مهما بذل. كانت تلك الرواية وكأنها ملحمة أدب كلاسيكي تأهلت فور صدورها لتكون رفيقة باريسية مجللة بالشغف، لجلجامش العراق وإلياذة اليونان القديم.

وفي الرواية نص يسجل المفارقة التي كان يقترفها هوغو بصوغ النوتردام رواية مطبوعة، إذ يشير كلود فروللو البطل الشرير فيها إلى زواره، بأن ينقلوا أبصارهم من كتاب مفتوح على مكتبه إلى مشهد الكاتدرائية الحاكمة، قائلاً: «هذه (أي الكتب) ستقتل تلك (أي المعمار)»، ثم يتمتم: «قدر الأشياء العظيمة أن تقتلها أشياء وضيعة».

وللحقيقة، منحت رواية هوغو تحديداً الكاتدرائية مكانة عالمية، وجددت اهتمام معاصريه بها، وكانت حافزاً لأوسع حملة في تاريخ فرنسا، لجمع الأموال من أجل تنفيذ أعمال صيانة وترميم واسعة لمعلم ثقافي أثري.

كان هوغو يكتب مقاطع روايته بعد أوقات مكثفة يقضيها في الكاتدرائية متأملاً، وهو لذلك تأخر عن الموعد المتفق عليه لتسليم النص للنشر عامين كاملين، كادا يزيدان لولا إلحاح الناشر الدائم.

«نوتردام باريس» لم تكن نصاً بقدر ما كانت حالة وجودية عاشها حتى الثمالة هذا الفرنسي الجميل، وقد تركت آثارها ظاهرة في كتابات جيل كامل من الروائيين العظام، أمثال هنري دي بلزاك، وغوستاف فولبير، وحتى تشارلز ديكنز.

وتنقل ماري بيرغمان، كاتبة سيرة الروائي الفرنسي مارسيل بروست، صاحب المجلدات العبقرية الستة، المسماة «البحث عن الزمن الضائع»، حالة وجودية شبيهة عاشها الأديب الشهير في حضرة النوتردام، وتذكر أنه كان عندما يصيبه الأرق ليلاً ويعانده شيطان الكلمات، يتناول معطف فراء سميكاً ويضعه على كتفيه، ويمضي إلى الكاتدرائية ليقضي وحيداً ساعتين أو أكثر واقفاً، يتأمل تفاصيل النقوش القوطية، متفكراً في تعاقب الأيام، ومستجدياً الإلهام والسمو عن اليومي والعادي والمألوف.

لم يكن سحر الكاتدرائية مقتصراً على الباريسيين وحدهم، وإن عدَّها هؤلاء تجسيداً لتاريخهم وثقافتهم وسر مدينتهم. إذ يُلحظ أن مثقفين أوروبيين كثيرين أغوتهم النوتردام لما أخذتهم الأيام إلى باريس. ومنهم النمساوي سيغموند فرويد، رائد علم النفس، الذي كتب أنه «مسه شعور غامر لم يعهده من قبل» عندما زار الكاتدرائية عام 1885، وكان عندما اتخذ من باريس مقراً لسكنه يقضي كل أوقات فراغه حصراً داخل حرمها، متجولاً دائم الدهشة، مسجلاً في أوراقه: «لم أرَ بحياتي شيئاً هائلاً وصامتاً وحزيناً مثيراً لأعمق العواطف، كتلك الكاتدرائية».

ومثل فرويد، كان لبيكاسو، الفنان الإسباني الأشهر في القرن العشرين، علاقة توحد خاصة بنوتردام، ورسمها في إحدى لوحاته الثمينة، تماماً كما فعل قبله كثير من تشكيليي فرنسا الكبار، كهنري ماتيس، الذي وكأنه هوغو، وقد حمل فرشاة رسم بدل القلم، ليحذو حذوه بتخليد الكاتدرائية في لوحات صارت جزءاً من تاريخ الفن البشري. ولحقهم نهايات القرن العشرين السينمائيون والمصورون الفوتوغرافيون المحترفون، ومنتجو الأفلام الوثائقية.

نوتردام باريس، التي بنيت على قواعد معبد وثني قديم، ووضع حجر أساسها البابا ألكسندر الثالث عام 1163، استهلكت خلال عشرات السنوات أعمار طائفة واسعة من أكفأ معماريي أوروبا وبنائيها، وكانت ورشة العمل فيها كجامعة هندسية تجتمع إليها عقول نخبة أوروبا، لتتعلم وتتجادل وتبدع، وتترك سجلاً لا يفنى لقدرة العقل البشري على الإبداع، عندما تتلاقى إرادة الأفراد على أشق المهمات.

عندما كانت نوتردام تحترق قبل أيام، كتب أحد الصحافيين عن صديقه الفرنسي، لحظة علم الأخير باحتضان النيران لسيدة باريس المشتعلة، أنه خرج إلى الشــــــوارع الباكية لا يلوي على شيء، يتجـــــــول مشدوهاً حتى منتصف الليل، حين وجد ثلة من سكان المدينة وسائحيها، فرقتهم المنابت وجمعتهم الصلاة بلغات كثيرة وبأصوات عالية، راكعين معاً كي تنجو نوتردامهم.

وعندما سأله الصحافي عن مشاعره قال مستهجناً السؤال: «ماذا تعتقد؟ باريس من دون نوتردام، إنه الجنون بعينه!».