& رشود بن محمد الخريف

&

في مطلع عام 2018، طالعتنا مجلة "المجلة" بعنوان مثير هو "أوراق النقد .. إلى المتاحف". يذكرني هذا الجدل حول اختفاء الأوراق النقدية بما يدور بين الأكاديميين حول المنافسة الحادة بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي، ولكنّ هناك فرقا كبيرا بينهما. فاختفاء الكتاب الورقي يكون مدفوعا بالعامل الاقتصادي فقط، أي خفض التكلفة، أما الحد من تداول العملة الورقية، فلا يتأثر بخفض تكلفة المصارف فقط، بل هناك دوافع اقتصادية أخرى، وسياسية واجتماعية وأمنية. بوجه عام، لا يزال كثير من الناس يفضل التعامل النقدي، نتيجة العلاقة النفسية التي تطورت بين الإنسان والعملة النقدية عبر آلاف السنين، ولكن الشباب لا توجد لديهم هذه العلاقة النفسية، بل يرى بعضهم أن التعامل الورقي أصبح من تراث الماضي! وفي كل الأحوال لا يزال هذا الموضوع ساحة ساخنة للنقاش، ليس بين خبراء الاقتصاد فقط، بل بين عامة الناس أيضا. وتتفاوت الدول في مدى استخدامها للتبادلات التجارية غير النقدية، فتأتي السويد في مقدمة الدول التي تتجه نحو اقتصاد دون عملة ورقية Cashless Economy، ويذكر أنها كانت أول دولة تطبع العملة الورقية في القرن الـ17، وترغب في أن تكون ــ أيضا ــ أول دولة تودعها، وليس مستبعدا أن يكون التعامل الورقي شيئا من الماضي في تلك الدولة في المستقبل القريب، على الرغم من المظاهرات الاحتجاجية التي تندد بالتداول الرقمي وتطالب بالتعامل النقدي. أما في الولايات المتحدة، فعلى الرغم من زيادة الاعتماد على التعاملات المالية الإلكترونية سنة بعد أخرى، فإن استخدام العملات الورقية لا يزال مرتفعا نسبيا مقارنة ببعض الدول المتقدمة الأخرى. أما كوريا الجنوبية، فقد دفعت بقوة بعيدا عن التعامل النقدي في حربها ضد الفساد، فارتفعت نسبة التعاملات الإلكترونية بدرجة كبيرة، خاصة باستخدام الهواتف الذكية. وتعد كينيا أنموذجا مثيرا لاستخدام الدفع الإلكتروني دون تدخل البنوك، وذلك باستخدام الهواتف الذكية فقط.
في الحقيقة، لم تسيطر التعاملات غير النقدية عبثا، بل هناك فوائد كثيرة للأفراد والمؤسسات والمجتمعات، منها:


(1) القضاء على غسل الأموال والتهرب الضريبي. (2) الحد من جرائم السطو على المحال التجارية، لعدم توافر النقد cash ا. (3) يسهم التعامل الإلكتروني في القضاء على غسل الأموال.
(4) القضاء على بيع وشراء الممنوعات مثل المخدرات ونحوها. (5) يسهل على البنك تعطيل أو إلغاء البطاقات البنكية المسروقة، ولكن يستحيل استعادة النقود المسروقة. (6) الحد من دعم الإرهاب والتبرعات المشبوهة. (7) الحد من الفساد وسرقة المال العام، لذلك سعت بعض الدول مثل الهند والاتحاد الأوروبي إلى إيقاف التعامل بالفئات النقدية الكبيرة من أجل الحد من الفساد وتجارة المخدرات والتهرب الضريبي.
وفي المقابل، يمتلك عشاق العملة الورقية بعض الحجج، منها:


(1) أن التعامل المالي غير النقدي يؤدي إلى انتهاك الخصوصية الفردية أو فقدانها بشكل كامل، لأن أي عملية شراء تسجل وترتبط باسم المستهلك. وعلى الرغم من أن "بيتكوين" Bitcoin توفر ميزة إخفاء الهوية، ولكنها غير مأمونة وغير مألوفة لدى كثيرين، ويمكن أن تستخدم لأهداف مشبوهة مثل تمويل الإرهاب والجرائم غير الأخلاقية. (2) هناك من يخشى خطورة الهجمات الإلكترونية، وما قد ينتج عنها من فوضى واضطرابات. (3) النظم الرقمية يمكن أن تفشل أحيانا، ولكن النقد لا يتعطل أبدا. فعلى سبيل المثال، يؤدي انقطاع الكهرباء إلى توقف عمليات الدفع الإلكتروني، في حين يبقى النقد في الجيب متوافرا في كل وقت. (4) قد يكون الاحتفاظ بالعملات النقدية "ورقية أو معدنية" أكثر أمانا، تحسبا لظروف طارئة وخارجة عن الإرادة كانقطاع التيار الكهربائي أو حالات الطوارئ والكوارث والحروب.


في الختام، على الرغم من أن بعض الناس يفضل التعامل النقدي، فإن هناك قوى تدفع المجتمعات لتكون دون تعامل نقدي. لذلك أعتقد أن استخدام العملة الورقية سينحسر تدريجيا للوصول إلى مجتمعات دون تعامل نقدي "صفر نقدية" بحلول 2025، ولكنه لن يختفي بشكل نهائي في جميع الدول في المستقبل القريب، لسبب بسيط، وهو أن كثيرا من الناس لا يمتلكون حسابات بنكية، ويفتقرون إلى خدمات الإنترنت، وآخرون يخشون حالات الطوارئ والكوارث والحروب. وبناء عليه، ستنضم إلى السويد دول أخرى كثيرة في سعيها نحو اقتصاد دون عملة نقدية Cashless Economy، بدرجة تفوق التوقعات، خاصة مع زيادة الثقة بالتعاملات غير النقدية وتطور تقنيات التعرف على الهوية من خلال ملامح الوجه! ولكن لا يقتصر العائق لتحقيق اقتصاد دون عملية نقدية على المستهلكين، بل إن البنوك في حاجة إلى أن تتطور تقنيا ضمن شراكات فاعلة مع شركات الهواتف الذكية، ما سيوفر عليها في النهاية الاستغناء عن آلاف الفروع ومئات الآلاف من أجهزة الصراف. وإذا لم تتطور في الوقت المناسب، فإن شركات التقنية مثل "أمازون وأبل وجوجل" ستسحب البساط من تحت البنوك دون أن تعلم!