& علي العميم

&

كان بين يدي عبد الله الخباص نص الإعلان الذي نشره سيد قطب في مجلة (الأديب) اللبنانية المنشور في شهر أغسطس (آب) عام 1947. والذي صرّح فيه بأنه اضطر أن يتخلى عن رئاسة تحرير مجلة (العالم العربي)، وكان بين يديه نص رد محمود العزب موسى الذي خلفه على رئاسة تحريرها، ونص رد يوسف شحاتة مدير إدارتها ومالكها، على ذلك الإعلان، المنشوران في العدد الخامس من تلك المجلة، لكنه أعمل مقص الرقيب في تلك النصوص، ولم يجز منها سوى تعليل سيد قطب في ذلك الإعلان تخليه عن رئاسة تحرير تلك المجلة بأسباب تتعلق بـ(مبادئه الخاصة)!، وإنكار محمود العزب موسى رئيس تحرير المجلة الجديدة أن يكون هذا التعليل صحيحاً، ونفى يوسف شحاتة صحة هذا التعليل.

قصة سيد قطب مع يوسف شحاتة لم تجر على النحو الذي قدمه فيها عبد الله الخباص في كتابه، (سيد قطب: الأديب الناقد)، وسأرويها لكم من خلال المصدرين اللذين هو رجع إليهما:

بغرض الانتقام من يوسف شحاتة بعد أن نحاه من رئاسة تحرير مجلة (العالم العربي) بعد صدور عددها الرابع، نشر سيد قطب إعلاناً، تحت عنوان (محرر مجلة العالم العربي) في عدد من الصحف والمجلات، ومنها مجلة (الأديب) اللبنانية، نصه ما يلي: «اضطررت مع الأسف، أن أتخلى عن رئاسة تحرير مجلة العالم العربي لأسباب تتعلق بـ(مبادئي الخاصة) (!)، مما لا مجال لتفصيله في الصحف، وإني بهذه المناسبة، لأشكر جميع من وثقوا بي وآزروني في خطتي. كما أرجو حضرات الكتاب الذين يتسلمون أجر مقالاتهم المنشورة بالعدد الرابع وبعض الأعداد الأخرى أن يتصلوا في هذا الشأن بحضرة يوسف أفندي وشريكه».

انتقام سيد قطب من يوسف شحاتة، أنه في هذا الإعلان أراد أن يحرجه مالياً، وذلك بتحريض كتابها على التعجل في طلب مكافآتهم المالية، وبإيماءته لهم أنه غير نزيه، وبالتالي، فهو سيسرق منهم هذه المكافآت. وهذا التحريض يتضمن دعوة غير مباشرة إلى أن ينفضوا عن الكتابة في تلك المجلة.

هذا الإعلان ينضح بالمزايدة الأخلاقية، حيث قدم نفسه بأنه صاحب مبادئ لا يقبل على نفسه أن يتنازل عن شيء منها، وفي المقابل طعن بخصمه يوسف شحاتة بأنه ليس له مبدأ، أو أنه لا يلتزم بالمبادئ.

لم يكتف محمود العزب موسى رئيس التحرير الجديد في رده على سيد قطب في افتتاحية العدد الخامس المعنونة بـ(إيضاح لا افتضاح) بالقول – كما قال عبد الله الخباص -: «وجدَّت أمور بعد ذلك أوجبت أن يستقيل الأستاذ أو يتنحى عن المضي في الإشراف على غرس يده» بل قال أيضاً: «وأراد الأستاذ أن يلغّم الطريق في وجه خلفه، فنشر بياناً في الصحف السيارة يقول فيه إن استقالته ترجع إلى (مبادئ خاصة). (مبادئ خاصة) هي التي دفعت الأستاذ قطب إلى النفور من رياسة التحرير، في وقت تندلع بين الأقطار العربية، شرارات خبيثة تحاول أن تتخذ طريقها في هشيم القلة النادرة من طائفة من الناس، شرارة الصهيونية التي رسمت الخطط، وأحكمت الوسائل لإخضاع الشرق العربي إليها، والقضاء على سكانه أجمعين، وشرارة الاستعمار التي تندلع يوماً بعد يوم في أوصال الشرق. (مبادئ خاصة) هي التي جعلتني أقبل مرتاح الضمير، هادئ الأعصاب هذه الرياسة. العالم العربي وأقصد هذه المرة، الرقعة الجغرافية، عالم تمثلت فيه صفات الشرق القديم، وبرزت فيه الطبائع السخية، المتسامحة، التي تعطي ولا تأخذ، ممثلة تمام التمثيل في ميثاق الإسكندرية واجتماعات الزعفران والبستان في القاهرة، يعبر عنها هؤلاء الأعضاء العرب في خطبهم وبياناتهم ونقاشهم، حتى اصطبغ العالم العربي كله بهذه الصبغة الظاهرة الواضحة الجلية، حتى لم يعد هناك متخلف واحد على القافلة، فتكون له (مبادئ خاصة) غير هذه (المبادئ الخاصة) المشتركة التي يدين بها الشرق.

وإذن لا خوف على المجلة من الانحراف عن المبادئ العامة أو الخاصة للعالم العربي، سواء أكان على رأسها الأستاذ قطب أم أنا أم ثالث... لا خوف ما دام القارئ العربي هو الذي يقبض بيده على عجلة هذه المبادئ، وفي يده هو أن يقبل على (العالم العربي) أم ينصرف عن (العالم العربي)، أما صفحات (العالم العربي) ففي شوق دائماً إلى كل كاتب ومفكر، وباحث، فهي ليست ملك صاحب المجلة، وليست ملك رئيس التحرير، وإنما هي ملك للعالم العربي كله أو إجماعه. هذا إيضاح للحقائق، لا افتضاح تنقصه الصراحة أو يفتقر الشجاعة».

هذا المقطع الأول من المقال. وفي المقطع الثاني من المقال ينتقل في الحديث إلى ما سماه «فضيحة التاريخ الكبرى. الفضيحة الهولندية مع إندونيسيا الشرقية».

ففي العام الذي كتب محمود العزب موسى افتتاحيته هذه، بعد أن نفذ الزعماء الوطنيون الإندونيسيون الشرط الأول من اتفاقية ليفاجاتي التي تنص على أن تمنح هولندا إندونيسيا استقلالها شريطة أن يطلق أحمد سوكارنو وأعوانه سراح الآلاف من الهولنديين المعتقلين في أيدي القوات الوطنية، نكثت هولندا بما التزمت به في تلك الاتفاقية، وشنت حرباً على المناطق الإندونيسية التي هي تحت حكم القوى الوطنية، فقاومها هؤلاء بحرب دفاعية. وفي المقطع الثالث من المقال ينتقل في الحديث إلى ما قال: إنه «فضيحة قديمة جديدة. فضيحة فلسطين. وهي فضيحة لا صلة لها بالعرب واليهود، وإنما كان العرب ضحايا واليهود ضحاياها على السواء. وإنما المشكلة الفلسطينية في الواقع ثمار التطاحن العالمي المستور. وقيام الصهيونية في الواقع بافتعال من الدول التي تريد أن تمد سلطانها على هذه البقعة من الأرض... إلخ». وفي المقطع الرابع من المقال ينتقل في الحديث إلى ما سماه «فضيحة الفضائح. فضيحة وحدة النيل». وفي هذا الحديث لم يتبين لي عن أي حادثة – على وجه التحديد – كان يتحدث، لكن يمكن القول بأنه في إطار عام كان يتحدث عن مماطلة بريطانيا في منح مصر والسودان الاستقلال.

وفي المقطع الخامس انتقل في الحديث إلى فرنسا. فرنسا التي قال من ضمن ما قاله عنها في هذا المقطع: «أساءت إلى مصر يوم أن أرادت أن تقدم الطعام للجائعين في بلاد تحتلها فرنسا، ويعيش فيها إخوان من العرب. وثارت على مصر يوم أن مدت يدها إلى مجاهد كريم أذلته فرنسا وأمرضته». يشير في الحادثة الأولى إلى غضب فرنسا من مصر بسبب مساعدتها الغذائية إلى دول الشمال الأفريقي، وغضبها منها بسبب استضافتها للزعيم الوطني المغربي الأمير عبد الكريم الخطابي.

وفي المقطع الأخير ينتقل في الحديث إلى روسيا التي قال عنها: «تلتزم الصمت إذا ما أثيرت إحدى قضايا الشرق العربي على المحافل الدولية، ويسكن ساستها إذا ما وجه إليهم سؤال عما يعتزمون بصدد هذه القضية. وهو سكوت مصطنع غير واضح وغير سليم».

واختتم افتتاحيته بالقول: «هذا إيضاح وافتضاح. لا يضير الشرق إيضاحه. ويسيء غير الشرق افتضاحه. أما الشرق فسيظل على ما هو عليه، مؤمناً بعدالة وجوده، مؤمناً بشرف الرسالة التي اضطلع بها منذ قديم الأجيال».

رد محمود العزب موسى على ما قال سيد قطب في إعلانه كان شرساً وعنيفاً وعدوانياً بدءاً من عنوان المقال (إيضاح لا افتضاح). فما كتبه هو يعده إيضاحاً، وما قاله سيد قطب في إعلانه يعتبره فضيحة، وقد جعله على رأس فضائح دولية!

وكما نرى، فإنه قد عرّض (مبادئ سيد قطب الخاصة) إلى سخرية مرة وهزأ بها هزءاً مهيناً بمهارة أدبية، واتهمه بالكذب والجبن على نحو أدبي أنيق.

ومن الإنصاف الحكم بأنه قد فاق سيد قطب بالمزايدة الأخلاقية بأشواط كبيرة، وذلك عندما ربط توقيت خروجه من مجلة (العالم العربي) بـ«شرارة الصهيونية» و«شرارة الاستعمار». وفي اعتقادي أنه لا يبيح له فعل ما فعل من اتهامات طائشة ومتطرفة أن سيداً كان البادئ بالمزايدة والافتراء. ولقد وقع في هذا الربط المتجني والمتعسف في تناقض بيّن مع ما قاله قبلها، وهو أنه «جدّت أمور أوجبت أن يستقيل الأستاذ أو يتنحى».. ففي هذا القول يشير إلى أنه أقيل ونحي عن رئاسة التحرير وأنه لم يتخل عنها باختياره. وهذه الإشارة تطيح بذلك الرب الزائف.

في رد يوسف شحاتة على إعلان سيد قطب قال في رده المعنون بـ(بيان لا بد منه): «تعلن إدارة مجلة العالم العربي إيضاحاً لما نشر في بعض الصحف والمجلات – من الأستاذ سيد قطب عن تخليه من أجل مبادئه الخاصة التي رجع إليها أخيراً – إنها تقدر حضرات الكتاب حق قدرهم وترجو أن يكون الاتصال معها مباشرة في جميع المعاملات المالية كما وأنها تعلن أن خروج (الأستاذ المحترم) بعيد كل البعد عن المبادئ الخاصة، إن كان هناك مبادئ خاصته. وقد تجمع على حضرته دين كبير للمجلة سيكون موضوع التقاضي في حالة عدم السداد».

في هذا البيان نرى أن يوسف شحاتة عرّض أيضاً بـ(مبادئ سيد قطب الخاصة) إلى السخرية، وإن كانت السخرية فيها أخف كثيراً من سخرية محمود العزب موسى. ونرى أنه تحفّظ على تسميته الأستاذ المحترم، حيث وضعها بين مزدوجين. ونرى أنه شكك أن يكون عنده مبادئ خاصة. ومما دعاه إلى هذا الشك أنه لا يفي بسداد ما عليه من ديون. وفي هذا السطر هدد سيد قطب تهديداً قضائياً واضحاً.

ومما قاله يوسف شحاتة نعلم أن سيد قطب كان يقترض من الميزانية المالية المخصصة للمجلة. وفي الغالب أنه أجبر على سداد هذا الدين من خلال الاقتراض من أصدقائه ومن معارفه!

سيد قطب كان مدمناً على الاقتراض، بسبب سوء صرفه المالي. وهذا المسلك السيئ عنده نعرفه من خلال حكاية رواها حسين أحمد أمين في كتابه (شخصيات عرفتها). هذا الحكاية كما رواها تقول: «لم يتزوج قط غير أنني أعرف أن صديقه عبد العزيز عتيق بعد زواجه من أختي، أراد أن يرد له الجميل أو الانتقام منه! فسعى في أمر تزويجه وعرّفه بفتاة من أسرة غنية أعجبته، وتقدم إلى أهلها لخطبتها، فلم يقبلوه إذ رأوه دميم الوجه، ثقيل الدم، لا مال له ولا جاه. كذلك كانوا قد سمعوا عنه أنه شديد السرف، يتقاضى مرتبه أول كل شهر، فينفقه كله في يومين أو ثلاثة، ثم يدور على أصدقائه لاقتراض جنيه من هذا وجنيه من ذلك». وللحديث بقية.

&