& &عبدالحق عزوزي

شهد السبت الماضي، وهو الثالث والعشرون من احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، احتجاجات عارمة واشتباكات وصفت بالعنيفة واللامسبوقة بين المحتجين وعناصر من الشرطة الفرنسية التي حاولت تفريقهم مستخدمة الغازات المسيلة للدموع وقنابل الصوت لترهيبهم. واعتقلت الشرطة، حسب وسائل الإعلام، نحو 227 شخصاً بتهمة إثارة الشغب، بينما أفادت وزارة الداخلية أن عدد المتظاهرين تراجع في مختلف أنحاء البلاد، إذ بلغ 27 ألفا و900 مقابل 31 ألفاً و100 الأسبوع الماضي. وبعد أسبوع طغى عليه حريق كاتدرائية نوتردام التاريخية، حيث أدى ذلك بالرئيس الفرنسي إلى إرجاء موعد إعلان إصلاحاته في ضوء «النقاش الوطني الكبير»، شكل يوم التعبئة هذا «الإنذار الثاني» لرئيس الجمهورية.
ما يقع في فرنسا بدأ يحير كل المتتبعين، سواء من حيث المدة التي استغرقتها هذه الاحتجاجات (خمسة أشهر) أو من حيث الوقائع المتتالية في بلد صناعي عضو في مجموعة الدول السبع الأكثر تصنيعاً في العالم. ويطالب المحتجون منذ منتصف نوفمبر 2018 بتعزيز القدرة الشرائية وبمزيد من العدالة الاجتماعية، وبالأخص تثبيت الديمقراطية المباشرة. وسنتوقف هنا عند هذه النقطة الأخيرة.


نعلم أن هناك خمسة مبادئ تمثل قواعد الديمقراطية الحديثة: إقرار حقوق الإنسان، إقرار النظام الدستوري لمزاولة السلطة، إقرار النظام التمثيلي والنيابي، بناء الحياة السياسية على أساس التعددية السياسية، وأخيراً جعل المجال السياسي والمجال العمومي مفتوحاً لإمكانية التداول السياسي على السلطة. وتشكل هذه المبادئ في مجموعها كلا غير قابل للتجزئة أو الانتقاء وتسمح بتنظيم السياسة كتدبير للشأن العام يختص به كل المواطنين.
المشكلة أن الفرنسيين وغيرهم كثير من الغربيين، لم يعودوا يثقون في نجاعة هذا النوع من الديمقراطية التمثيلية، بل لم يعودوا يثقوا في كل الأحزاب السياسية. عندما وصل الرئيس الشاب إلى قصر الأليزيه، صفق له الجميع، فكان يقدم نفسه بأنه «لا من اليمين ولا من اليسار»، وأنه نموذج الطبقة الفرنسية المثقفة. وخلال ثلاثة أعوام فقط تمكن الرئيس الجديد المنتخب ماكرون من وزير في حكومة الانتقال الرئيس هولاند ليصبح ثامن رئيس للجمهورية الخامسة، وأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية (39 عاماً). قبل ثلاثة أعوام فقط لم يكن الفرنسيون يعرفون إيمانويل ماكرون الذي أسس حركته «إلى الأمام» لخوض أولى حملاته الانتخابية حيث قدم نفسه كمرشح «الوطنيين ضد القوميين»، ليزيح مرشحي الأحزاب التقليدية في فرنسا، ويصبح رئيس فرنسا الجديد خلفاً للاشتراكي هولاند.


لكن مع واقع السترات الصفراء كل شيء تغير. فهناك حالة من الإحباط، ليس فقط من حزب اليمين واليسار التقليديين اللذين هيمنا على المشهد السياسي في البلاد طيلة عقود، ولكن من كل الأحزاب، فلم يعد الفرنسي اليوم يثق في التوجهات السياسية ولا في ممثليها، وهذا له أكثر من مدلول في سوسيولوجية العلوم السياسية فيما يتعلق بالمجال السياسي العام، وإيديولوجية الأحزاب، والعمل السياسي.
الرسالة التي وصلت للجميع، هي أن نفاذ صبر الطبقات المتوسطة والفقيرة في مجتمعات صناعية ديمقراطية قد تحدث زلزالا يصعب معه إيجاد حلول، فلا الوضعية الاقتصادية الأوروبية ولا العالمية يمكنها أن تلبي رغبات أصحاب السترات الصفراء، زد على ذلك أنه مع فقدان شرعية الأحزاب وممثليها فكل حل يتم تقديمه سيكون مصيرها الرفض. فرنسا دولة مؤسسات وهذا ما يفسر أن الاحتجاجات لم تحدث زلزالا كلياً.. ولكن إلى متى؟ كل الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين يقولون إن فرنسا تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة وأن مرحلة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية هاته ستؤثر بشكل بالغ على فرنسا، بل وعلى العديد من الدول الأوروبية وسيخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء العديد من المكتسبات الديمقراطية والاقتصادية التي راكمها منذ قرون.


هناك الآن معادلتان: معادلة الفاعلين الاجتماعيين ومعادلة الفاعلين السياسيين، لكن الإشكالية أن كل الفاعلين المجتمعيين والسياسيين ليسوا في الحركية المجتمعية ولا السياسية الصحيحة، وهم غارقون جميعاً إما في مطالب مستحيلة أو في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس وهنا الداهية العظمى.

&