& محمـد أبـوالفضـل

&الكتابة عن السودان غنية ومتشعبة، لكنها كانت مليئة بالمطبات السياسية الفترة الماضية، حيث تم التعامل مع ما يكتب فى الصحافة على أنه تعبير عن مواقف رافضة أو مؤيدة لتوجهات الخرطوم والمعارضة. وفئة كبيرة من الأصدقاء فى السودان لديهم حساسية مفرطة، درجوا على تصنيف الكتابات على أنها مع أو ضد، وليس شيئا ثالثا يتعلق بالرصد والتحليل بحكم مقتضيات المهنة. المواقف التى تعرضت لها شخصيا فى هذا المجال كثيرة، جعلتنى أصنف أحيانا من قبل البعض بأننى فى خندق المعارضة السودانية، وفى نفس اللحظة مع الحكومة من جانب آخرين. وهى شهادة مرضية.

&الأحداث التى يمر بها السودان تفرض تخطى الحسابات الضيقة والإمعان فيما يدور الآن، فقد ذهب النظام الذى أدخل هذه الفرية فى نفوس بعض الدوائر الحزبية، ويوشك السودان أن يتعافى ويطوى واحدة من الصفحات الغامضة التى اعتمدت على تصدير الأزمات وليس مواجهتها، والبحث عن الفتن وليس إخمادها، ما جعلها تستفحل وتقود إلى انفجار الشارع.

السلاح الذى استخدمه نظام الخرطوم للدفاع عن وجوده وتحريض المواطنين على صرف الأنظار عن اللجوء للمظاهرات أثبت فشله، وخرج الناس فى لحظة يأس، وأملوا إرادتهم دون التفات إلى المخاوف التى جرى غرسها بسبب المصير القاتم لمن أسقطوا حكامهم فى كل من ليبيا وسوريا واليمن، وهى الموجة الأولى للانتفاضات التى نجت منها مصر وتونس بسلام.

الرئيس السودانى المعزول عمر البشير ردد منذ اندلاع المظاهرات فى 19 ديسمبر الماضى هذه النغمة، واتهم تلميحا وتصريحا جهات عدة بالتآمر عليه. مع ذلك أخفقت كل الحيل فى أن تبقيه على عرشه وتمنع عنه العدوى التى أصابت دولا أخرى، لأن المهمشين أصبحوا وقودا للاحتجاجات، ومازالوا يقاومون تطويقهم الناعم ويصرون على التخلص من روافد الحركة الإسلامية المهيمنة على قلب النظام. العبر التى تقدمها الأحداث عديدة ولن تتوقف عند سقوط رئيس أو التخلص من حلقات قمعية واسعة، طالما توافرت لها عوامل تجبر الناس على عدم الالتزام بحلمهم وصبرهم على الأزمات. فلم يمنح البشير على مدى ثلاثة عقود فرصة لمن اختلفوا مع نظامه للتعبير عن رأيهم، وأغلق الأبواب والنوافذ وقلص هامش الحريات وانتهك حقوق الإنسان وضرب عرض الحائط بقيم الدولة المدنية.

التجاوزات التى ارتكبها فى إقليم دارفور أحدثت صداها لدى المجتمع الدولي، وقادته إلى المحكمة الجنائية. وهى معضلة تواجه المجلس العسكرى الانتقالى والمشرفين على المظاهرات، ويشغلهم سؤال، هل تتم المحاكمة فى الداخل أم فى الخارج؟ ولذلك كان البشير حريصا فى الأيام الأخيرة على اقتناص وعد بخروج آمن من السلطة، ومحاولة وضع ترتيبات تجنبه مواجهة إجابة سلبية لهذا السؤال. الرجل أوجد طبقة كبيرة من المنتفعين كانت تطرب لما يردده فى خطبه الجوفاء. وناور داخليا لإضعاف خصومه، ومنح الجماعات الإسلامية بأطيافها ملاذا آمنا لفترات طويلة، وتقلبت توجهاته بين الدول ما أفقده الكثير من الأصدقاء، وحرمه من تلقى مساعدات اقتصادية، منذ انطلاق شرارة الأزمة، كانت من الممكن أن تطيل فترة حكمه قليلا. النظام السودانى تصور أن الحركة الإسلامية التى ينحدر منها أحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة، فلم يعبأ بمقدمات التململ الاقتصادى والاجتماعى الذى ظهر على فترات متباعدة، وعاند الطبيعة وأوغل التكويش على السلطة، ونسى أن الضغوط يمكن أن تجلب العواصف فى أى لحظة، ولم تعصمه طيبة وهدوء السودانيين من عدم انتقال الاحتجاجات العربية إليه. القبضة الأمنية التى اعتمد عليها لم تكن كفيلة لزرع الخوف فى نفوس المواطنين. والنماذج التى تحدث عنها، فى ليبيا وسوريا واليمن، أعمته عن تجاهل الانتفاضات التاريخية للشعب السوداني، الذى كان فى مقدمة شعوب ثارت على حكامها، وعلم الناس أن آخر الظلم ثورة.

البشير سقط مع أول عاصفة احتجاج منظمة اقتربت من قصره الرئاسي، لكن لم يسقط معه بعد كل رموز نظامه. وهى المعركة التى يصر المتظاهرون على اجتثاثها من جذورها. ربما يكون من حسن حظهم أن تحركهم جاء عقب انتفاضات مختلفة مرت بها بعض الدول العربية، ما مكن تجمع المهنيين وتحالف قوى الحرية والتغيير من تحاشى أخطاء الآخرين. التحركات الجارية فى السودان لن تتبلور معالمها النهائية سريعا، لأن الشكوك التى تنتاب المعتصمين أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم مليئة بالهواجس، وتريد الحصول على ضمانات لتشكيل حكومة مدنية على مستوى المسئولية. كما أن الكلام الساكت لدى الأحزاب السياسية أكثر من الصياح والتهليل فى الشارع، ويحتاج إلى رؤية شافية قبل أن تنفض المظاهرات.

مشكلة المجلس العسكرى الانتقالى حرجة مع بقايا نظام البشير، والاستجابة لجميع مطالب المحتجين. وعليه أن يقوم بخطوات تضمن التخلص من إرث الأول، بكل ما يحمله من قيادات تجلس على قمة أجهزة أمنية قامت على أكتاف الانتماءات العقائدية. وعليه أن يثبت مصداقيته لتهيئة البلاد لحياة مدنية حقيقية تبعد سيطرة الحركة الإسلامية على الدولة العميقة. والمفارقة أن إعلان المجلس العسكرى عزل البشير وإقالة عدد من المسئولين، وكل التباديل والتوافيق السياسية، لم تثن إرادة المحتجين أو تجعلهم يتركون الشارع، فقد تولدت لديهم قناعة أن انصرافهم قبل تلبية أهدافهم من جانب مؤسسة يحمل عدد كبير من قياداتها أفكارا أيديولوجية ربما يؤدى إلى عودة الجحيم السياسي. لذلك يصمم المعتصمون على تنظيم أوراق المرحلة المقبلة واستكمال الانتصار بتصفية رموز البشير ومحاكمتهم قبل الذهاب إلى المنازل، ويدركون أن العودة للشارع مرة أخرى قد تحتاج وقتا طويلا، لأن الإرهاق الذى أصاب السودان لن يكون فى مصلحتهم. وعليهم الاستفادة من الأجواء الإقليمية والدولية الداعمة للحلول السياسية وتشكيل حكومة مدنية.

من حسن حظ السودانيين أن اللغط الذى أثير فى الموجة الأولى حول المؤامرات الخارجية تراجع مع الموجة الثانية. ومن حسن الحظ أيضا أنهم حرصوا على الاستفادة من دروس غيرهم، مما يجعل مهمة المجلس العسكرى صعبة، ولن يتمكن بسهولة من دحرجة ما يريده للميدان دون الحصول على موافقة صريحة من المعتصمين.