&مبارك فهد الدويلة

&يعد الشيخ عايض القرني من المشايخ المعتبرين، الذين كانت لهم صولات وجولات في مجال الدعوة إلى الله وتوجيه الناس نحو الإسلام الوسطي، وحثهم على اتباع السنة الصحيحة وعدم الانجراف خلف الحضارة الغربية الزائفة، مستخدماً أسلوب التبشير لا التنفير، والاعتدال لا التطرف، زارعاً في الناس الأمل بمستقبل أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفجأة، خرج علينا الشيخ في لقاء تلفزيوني ويسأله مقدم البرنامج أسئلة تبدو وكأن إجابتها معروفة قبل أن يتكلم الشيخ.. وكان الحديث حول الصحوة الإسلامية، وكانت إجابة الشيخ حول مخاطر هذه الصحوة على الشباب، وكيف انحرفت عن الإسلام المعتدل الذي نعيشه اليوم!&

ثم يعتذر الشيخ عن هذه الفترة؛ فترة الصحوة، كما أسماها، ويُظْهِر الندم على سلوكه وسلوك كثير من الدعاة الذين تأثروا بهذه الصحوة وشددوا على الناس؛ فحرّموا الحلال، وضيّقوا واسعاً، ثم يكرر اعتذاره عن تبنيه لفكر الصحوة! لا أريد أن أحمّل الشيخ أكثر من طاقته، مع أني كنت أتمنى لو أنه لم يظهر في تلك الحالة خوفاً من تبعاتها الشرعية والتاريخية عليه وعلى مسيرته الرائدة، لكنني أريد أن أوضح مسألتين: الأولى أن الصحوة المقصودة في الحديث هي الفترة التي جاءت مع تحالف الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدرعية قبل أكثر من مئتي سنة، وفيها تم تطهير عقائد المسلمين من مظاهر الشرك التي كانت منتشرة في تلك الحقبة، ثم جاء زمن الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – وتبنى هذه الصحوة، التي كانت تسمى بالعقيدة الوهابية، وفرض التوجه الإسلامي على الدولة التي كانت تحتضن الحرمين الشريفين وتطبق الشريعة الإسلامية.. هذا كان في شبه الجزيرة العربية. أمّا في أطرافها، وفي بقية الدول العربية، فقد وصل التخلف مداه بعد سقوط الدولة العثمانية وتسلّط الدول الغربية على الأمة في احتلال عسكري قهري؛ فأصبحت ممارسة الشعائر الدينية محصورة فقط في كبار السن، وحُرِّمت الاحتفالات الدينية، وأُغلقت المدارس الشرعية، ومُنعت المدارس النظامية من تدريس القرآن الكريم وعلومه؛ فنشأت حركة الإخوان المسلمين عام ١٩٢٨ لتعيد الأمل إلى الأمة وكرامتها، فهبت بشائر صحوة إسلامية جديدة تداعى لها الصغار قبل الكبار والنساء قبل الرجال، وانتشرت الندوات والمحاضرات التثقيفية التي أعادت – بفضل الله – الناس إلى دينهم، وخرج علينا مشايخ وعلماء لا يخافون في الله لومة لائم، تعرض بعضهم للتضييق في رزقه أحياناً وللمطاردة الأمنية أحياناً أخرى من دون أن يحول ذلك بينهم وبين ممارستهم للدعوة إلى الإسلام، الذي يعطي للإنسان كرامته وشيئاً من عزة نفسه! فأصبح الناس يفهمون الإسلام من مناهله الأصلية (الكتاب والسنة النبوية الصحيحة) بعيداً عن الخرافات والبدع والأهواء، وأصبحنا نشاهد الحجاب الشرعي للمرأة، وتمت محاربة المنكرات؛ مثل الخمور والقمار وأماكن الدعارة، وانتشرت مراكز تنوير الشباب بأولوياتهم في الحياة بعيداً عن التطرف والتزمت والتشدد المبالغ فيه (لا إفراط ولا تفريط)،

وتم التركيز على العلوم المفيدة، الدنيوية منها والشرعية، وتخرّج آلاف الحاصلين على المؤهلات العالية من أكبر الجامعات في العالم من دون أن يغير ذلك من التزامهم الديني واعتزازهم بعقيدتهم، ونشأ جيل قرآني يعرف دوره في الحياة.. فهل هذه هي الصحوة التي يعتذر عنها الشيخ القرني؟! هذه الصحوة ليست ملكاً لأحد كي يعتذر عنها، هذه الصحوة هي التي أنقذت أمة كاملة من الجهل، هذه الصحوة هي التي أعادت إلى الأمة كرامتها، وأنارت الطريق للشعوب المتعطشة للحرية. نعم، شيخنا الفاضل، لم يقنع اعتذارك الخصوم الذين بدأوا يطالبونك بتحمل تبعات الماضي، وقد يستغلون حديثك للمطالبة بتعويضات مادية عن مصالح تسببت أنت وغيرك بفواتها عليهم! أما محبوك، فقد كانوا يشاهدونك وهم يتحسرون على كل كلمة كانت تخرج من الفم الذي كان بالأمس يغرد بأطايب الكلام وأعذب الحديث! أمّا التشدد والتضييق على الناس، فهما من المرجعية السلفية التي كان البعض يحتضنها في المنطقة ويتبناها.

وأما التطرف والعنف، فهما إما من التضييق على ممارسة الشباب لعبادتهم بحرية تامة، أو بسبب الفهم الخاطئ لمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي درسوه بعيداً عن المحاضن التربوية للجماعات الإسلامية المعتدلة، تلك الجماعات التي تمت محاربتها في اعتدالها حتى خرج لنا هذا الفكر المتطرف. الشيخ عايض لم ولن يكون آخر المشايخ الذين يتساقطون في الطريق، فهذا الابتلاء هو قدر الأمة، ونتمنى أن تكون هفوة يتعظ منها البقية، إن كان ما زالت هناك بقية. مبارك فهد الدويله

&