محمد علي فرحات&

تخوض طهران في الإقليم العربي حروباً تريدها صغيرة ومتفرقة، فلا تصل إلى إيران نفسها لكن تؤكد حضورها في الإقليم كلاعب رئيسي. وهي تجد في دول مثل العراق وسورية وليبيا وفلسطين ولبنان مجالاً للتدخّل بذريعة الحفاظ على طائفة أو على حقوق وطنية أو على مناهضة إسرائيل وداعميها.


حروب تهدف إلى شيء واحد هو الحفاظ على النظام الحاكم في طهران، إذ تعطيه ما يعوّض عن فشله الداخلي بحضور في ميادين القتال الإقليمية وأوراق خارج الحدود توهم المواطن الإيراني بأنه ينتمي إلى دولة عظمى.

أحدث الحروب الصغيرة تخريب سفن في المياه الاقتصادية لدولة الإمارات أرادت طهران تجهيل فاعلها، وطائرات درون تلحق ضرراً بمحطتين سعوديتين لضخ النفط أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن إطلاقها. إنه اللعب على حافة الهاوية مصحوباً بإعلان المرشد علي خامنئي أنه لا يريد حرباً وباعتقاده أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يريد حرباً أيضاً. وإذا كان بعض مؤيدي إيران رأوا في ما حدث للسفن ولمحطتي الضخ رسالة من الملالي بأنهم سيقطعون إمدادات النفط إذا مُنعوا من تصدير نفطهم، فهذا الكلام خارج الموضوع عملياً، لأن لا أحد في العالم وفي الإقليم يريد منع مرور ناقلات النفط الإيراني في مضيق هرمز باتجاه أي ميناء تقصده. ليست هنا مشكلة إيران، إنها في مدى رغبة الدول باستقبال ناقلات نفطها، فالتدبير الذي فرضته الإدارة الأميركية يتجلى في مقاطعة معظم دول العالم النفط الإيراني أكثر من كونه حصاراً يمنع حركة الناقلات ذهاباً وإياباً. وتدرك واشنطن جيداً أنها لن تحقق هدفها بتصفير تصدير النفط الإيراني إذ ستنجح ناقلاته في بيع القليل إلى هذه الجهة أو تلك، بما لا يكفي سدّ عجز الموازنة الإيرانية الذي يتفاقم بوتيرة متسارعة مع العقوبات غير المسبوقة التي تفرضها الولايات المتحدة علناً ودول أخرى من غير إعلان.

الحرب لن تقع، لكن العقوبات باقية، والخيط المشدود في الإقليم العربي الذي فرضته طهران بدأ يتراخى، بدءاً من العراق حيث الحكومة تعزز علاقاتها العربية، خصوصاً مع الرياض، وصولاً إلى سورية التي يسيطر على ملعبها الروسي والتركي مع تراجع غير معلن للوجود الإيراني، وإلى لبنان حيث يتهمّش "حزب الله" سياسياً، خصوصاً مع توصّل ترويكا ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري إلى تفاهم مع الولايات المتحدة لرسم الحدود البحرية والبرية مع الكيان الإسرائيلي، بما يمهّد لدخول بيروت نادي الدول النفطية مع تصدير "كنوزها" البحرية من النفط والغاز. ولا بد أن يتراخى حضور طهران في اليمن بوصول الحوثيين إلى طريق مسدود، وفي ليبيا بتحقّق تسوية تقضي على إرهاب يرعاه التركي والقطري ومن خلفهما الإيراني.

ولن يستمر طويلاً رفض طهران الحوار، فهي مارسته غير مرة في أزماتها المديدة مع الولايات المتحدة، وستعمد قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو بعدها مباشرة على الأرجح، إلى الاتصال بترامب أو بأي رئيس يخلفه للحفاظ على ما تبقى من نفوذها، في العراق على الأقل، وللتأكد من أن نظامها لن يتعرّض لضربات مهلكة.

ترامب وخامنئي يتكلّمان اللغة نفسها في اللعب على الحافة وعدم الوصول إلى الحرب. قال الأميركيون إنهم سيضربون الأصيل ولن يتوقّفوا عند الوكيل في حروب إيران غير المعلنة، لكن طهران لن تسمح بإعطاء ذرائع لضربات أميركية مباشرة تؤذيها وتفاقم أزمة نظامها.

هذا هو المرجّح، فأجواء الإقليم والعالم ليست بالتأكيد في مصلحة طموحات إيران الأساسية في تصدير الثورة. ذلك كلام من الماضي الذي انقضى، ومشكلة إيران ستعود إلى المربّع الأول: إنها مشكلة نظام مع شعبه، وما يتعلق بالحاكمين والمحكومين في دولة خمينية نسبت إلى نفسها زعامة الإسلام السياسي في المنطقة والعالم، وعجزت عن تحقيق هذه الصفة لأسباب عدة سياسية واقتصادية وحربية... وفقهية أيضاً. وقد أن لإيران أن تترك مسلمي العالم وشأنهم ليقيموا دولهم الوطنية بعيداً من إيديولوجيات هي في الحقيقة أقنعة للسيطرة عليهم.

&