& حازم صاغية

&

قبل أسبوع توفّي بطريرك الموارنة السابق الكاردينال نصر الله صفير. وسائل الإعلام الاجتماعي وما تبقّى من صحف زخرت بالنعي والرثاء الصادقين. إحساس كبير بالفَقْد أصاب بيئة 14 آذار التي رمتها السنوات الماضية بعدد من الهزائم وعدد من التراجعات.
الكاردينال يستحقّ التكريم الذي حظي به تبعاً لمواقفه في المسألة الوطنيّة. فهو الذي رعى، بالشراكة مع وليد جنبلاط، «مصالحة الجبل»، قبل أن يرعى «لقاء قرنة شهوان». هذان الحدثان في 2000 و2001 مهّدا، بمعنى ما، للحالة التي عبّرت عنها 14 آذار إثر اغتيال رفيق الحريري في 2005. وصفير، إلى هذا، لم يزر دمشق إبّان وصايتها، وحتّى آخر قول سياسي صدر عنه، بقي مُصرّاً على أنّ سلاح «حزب الله» غير شرعي وغير مقبول، بل مفروض بقوّة الأمر الواقع.
إذن، ليس من المبالغة القول إنّه كان واحداً من أبرز آباء الاستقلال اللبناني الثاني، الذي تأدّى عنه خروج القوّات العسكريّة والأمنيّة السورية من لبنان.


مع ذلك، كان لافتاً أنّ بعض الذين شاركوا في التكريم هم من دعاة الحرّيّات الاجتماعيّة والثقافيّة والجنسيّة، والعداء لكلّ سلطة، وممن يرفضون كلّ قيد على حرّيّة الشكّ وكلّ تدخّل للمؤسّسات الدينيّة في الحياة العامّة. أصحاب الموقف المذكور لم يسجّلوا أي تحفّظ أو تمايُز يُمليهما انحيازهم إلى ما ينحازون إليه. ولا نضيف جديداً إذا قلنا إنّ صفير، كرجل دين بارز، لا يشارك هؤلاء قيمهم، وليس مطلوباً منه ذلك. أمّا هم فبالطبع يضيقون بقيمه المحافظة وليس مطلوباً منهم ألاّ يضيقوا بها. فإذا أضفنا إلى الحرّيّات في سائر بنودها مسألة اللجوء السوري وما أطلقته من مواقف لدى البعض، جاز الشكّ بامتلاك الكاردينال الراحل نفس الحساسيات التي عبّر عنها نقّاد العنصريّة. إنّه، في الحساب الأخير، شديد الانتباه إلى التوازنات الطائفيّة بوصفه زعيماً روحيّاً لإحدى الطوائف.


الكلام هذا لا ينطوي على حكم قيمة، فهو تعيين لموقعين يصعب أن يتطابقا كلّيّاً ولا يجوز أن يختفي التحفّظ والاستدراك أمام تطابقهما المفتَعل. نعم، هناك تقاطع عريض في المسألة الوطنيّة، أمّا فيما يتعدّى تلك المسألة فالأمر يختلف.
لقد عرفتْ بلدان كثيرة انحياز رجال دين كبار إلى قضايا شعوبهم. نجد هذا مثلاً في بلدان كآيرلندا أو بولندا التي رعت كنيستها ثورة شعبها ضدّ النظام الشيوعي والسوفياتيّ. بيد أنّ رجال الدين الوطنيين أولئك كانوا تعريفاً مناهضين للطلاق والإجهاض، يقفون من تحرّر المرأة وحقوقها موقفاً هو، في الغالب، أسوأ من موقف النظام الشيوعيّ. إذن، مع رجال الدين هؤلاء لا بدّ من مزج التأييد بالنقد، أي اعتماد لون من التأييد النقديّ.
هذا القطاع من اللبنانيين كان قد فعل الشيء نفسه مع قادة سياسيين لا يشاركونه بالضرورة قيمه وقناعاته، كرفيق الحريري وغسّان وجبران تويني، وقبلهما كمال جنبلاط وبشير الجميّل: تعظيم التأييد وتقليص النقد. ذاك أنّه حين تستعر حروب الهويّة يغدو من الصعب الانحياز المطلق والمتجانس إلى القيم: تلك الحروب تنمّي فينا ما يجمع بينـ «نا» ويُديم تماسكـ «نا» في مواجهة آخر يعمل على إدامة تماسكـ «ـه» في مواجهتـ «نا». البحث عن آباء يغدو مُلحّاً.
لقد سبق أن عرفنا، وعلى نطاق أعرض، حالات مشابهة امتزج فيها الحدث العاطفي كالموت الذي يصيب القائد والمرارة السياسيّة بسبب هزيمة نزلت بمؤيّديه: فبعد حرب 67 مثلاً راح اليسار الراديكالي يكيل الشتائم لجمال عبد الناصر بوصفه «بورجوازيّاً صغيراً متذبذباً»، لا تدلّ موافقته على مشروع روجرز والقرار الأممي 242 إلاّ على ذلك. المطالبة بإسقاطه باتت رياضة يوميّة في هذا الوسط الذي طرح نفسه بديلاً «ثوريّاً» للناصريّة. لكنْ حين توفّي عبد الناصر في سبتمبر (أيلول) 1970 خرجت مجلّة «الحرّيّة» – وكانت أبرز ممثّلي ذاك اليسار والصوت الأعلى في هجاء الرئيس المصري – بغلاف شهير: «ناصر خزّان الكرامة العربيّة».


أمّا الشكل الأكثر رداءة من هذا البحث عن الأب الحامي للجماعة «المرصوصة»، أو الأب الرمز، فهو ما يفعله «تقدّميّون» موالون لـ«حزب الله»: إنّهم يجهدون في الإيحاء بأنّ الحزب المذكور يشاركهم آراءهم النِسويّة وتلك المتعلّقة بالحرّيّات الثقافيّة والجنسيّة، فضلاً عمّا يزعمونه في أنفسهم من رفض للعنصريّة واللاساميّة. هذا فيما «حزب الله» – الذي يقوده رجال دين ليس بينهم امرأة واحدة، وقد لا يكون بينهم رجل واحد غير مُعمم، والذي ينشر في مناطق سيطرته أدبيّات لا ساميّة سيّئة الترجمة – لا يزعم عن نفسه إلاّ عكس ما يزعمونه عنه.
والحال أنّ الانتقال من أشكال التأييد المطلق إلى التأييد النقديّ، هنا وهناك، مفيد للجميع ومفيد للقضايا التي يُفتَرض أنّهم يحملونها. إنّه يرفعنا إلى سويّة أعلى من السياسة، وقد يضرب معولاً صغيراً في جدار العصبيّات الصلب، كما قد يسير بنا مليمتراً على طريق الانحياز إلى القيم بقدر أقلّ من أفعل التفضيل.