& &السيد ولد أباه

لم يكن علم الكلام لينال اهتمام وقبول تيار الصحوة والفكر الإخواني إجمالاً، الذي اعتبره «علماً دخيلاً» على الدين «حرّف العقيدة» وأدخل الفلسفة في صلب الاعتقاد الإسلامي، وهو في أحسن الأحوال «ترف عقلي فارغ» لا علاقة له بهموم المسلمين الراهنة.
هذه الأطروحة ترجع إلى المدرسة القطبية، وقد ركزها رواد الصحوة، وفي مقدمتهم سفر الحوالي، الذي كتب كتابين مشهورين حول «ظاهرة الإرجاء» في الفكر الإسلامي، وحول الأشعرية، ذهب فيهما إلى التحامل الشديد على علم الكلام، ومذهب أهل السنة الأساسي الذي هو الأشعرية.&
ما لا يدركه الكثيرون هو أن الانتقادات الموجهة هنا لعلم الكلام، وإن استعادت جانباً من الجدل العقدي القديم بين المتكلمين وخصومهم، إلا أنها في الحقيقة تعكس الشعور بالتعارض الجوهري بين الأطروحات والمواقف الكلامية التي اعتمدها جل علماء الإسلام في السابق ومنظور الإسلام السياسي، في محاولته لإعادة تأسيس المرجعيات العقدية للإسلام من منطلقات أيديولوجية جديدة.
ما يثير امتعاض واعتراض الصحويين و«الإخوان» هو ثلاث أطروحات كلامية أساسية، لا يمكن أن تتلاءم مع المقاربة الأيديولوجية للإسلام في مرتكزاتها الأساسية:

الأطروحة الأولى: تتعلق بمفهوم الإيمان ومقتضياته، فالمعروف أن أهل السنة ذهبوا إجمالاً إلى أن الإيمان تصديق وقبول، دون المطالبة بمعرفة مضامين وتفصيلات الاعتقاد، ودون تكفير للمخالف في الفهم أو تكفير بالعمل، مع تحديد علاقة الله بعباده في أفق الرحمة، التي هي الترجمة الفعلية لمبدأ العدالة الإلهية خارج موازين التصور البشري الضيق. النتيجة الأولى الهامة لهذا التصور هي رفض أي قانون للاعتقاد لدى أهل السنة، ما دام الاتفاق قائماً على أن معرفة الله في ذاته مستحيلة عقلاً، أما الصفات والأفعال فمدارها أثر الخلق الإلهي في الطبيعيات والإنسانيات. ولقد لاحظ كبار المستشرقين الذين اهتموا بالدراسات الكلامية أن علم الكلام لا يمكن اعتباره لاهوتاً على الطريقة المسيحية، لأنه لا يبحث في طبيعة الذات الإلهية بل هو علم أقرب للممارسة الجدلية والاستقصاء الفلسفي، ومن هنا التعارض الجذري مع السعي لبناء منظومة أيديولوجية على أساس العقيدة الإسلامية، كتحويل الحاكمية القدرية والوجودية إلى مبدأ للشرعية السياسية ولهوية الجماعة المؤمنة.

الأطروحة الثانية: تتعلق بمسلك الاعتقاد الذي حدده متكلمو أهل السنة، بأولوية النظر العقلي الذي هو المدخل إلى البحث في مسائل التوحيد. إن هذا التوجه العقلاني هو الذي يفسر الخصوبة النظرية الواسعة لدى المتكلمين التي تتجاوز الحقل العقدي الضيق، كما نلمسها في مستويات ثلاث هي: الطبيعيات حيث أفضت النظرية الذرية التي بلورها المتكلمون المعتزلة والأشاعرة (نظرية الجوهر الفرد) إلى إحداث نقلة ابستومولوجية في الفكر العلمي، بتهيئة الانتقال من الكوسموس الأرسطي إلى التصور الرياضي للطبيعة، وفي المبحث الوجودي أسس المتكلمون للخروج من أنطولوجيا الجوهر إلى أنطولوجيا الشيء، وما تطرحه من إشكالات غير مسبوقة في الموضوعات المعرفية إدراكاً وتصوراً، وفي المبحث الأخلاقي أسسوا للانتقال من مبدأ الفضيلة الطبيعية إلى التقويم النفعي التواضعي، من خلال رفض مبدأ التحسين العقلي لدى الأشاعرة، مع قبولهم للحكمة والعادات في الاعتبارات القيمية وفي تعليل الأحكام.
ما يرفضه الصحويون في علم الكلام هو هذا التوجه الفلسفي العقلاني، الذي انطلق من منظور إسلامي داخلي، ما دامت الإشكالات الموجهة له تتعلق في مجملها بمبحث الأسماء والصفات، الذي هو جوهر الأدبيات الكلامية. ومن الجلي أنهم إذ يرفضون هذا الرصيد العقلاني الهام لا يقدمون بديلاً عنه إلا خيارين مسدودين: خيار الصياغة اللاهوتية للإسلام، بمحاولة فرض قانون للاعتقاد تبرأ منه أهل السنة خلال المحاولة المعتزلية في العصر العباسي، أو خيار الصياغة الأيديولوجية بتحويل العقيدة، التي هي في فهم أهل السنة انخراط طوعي في الجماعة المؤمنة إلى قاعدة للاصطفاف السياسي الحركي.


الأطروحة الثالثة: هي اعتبار الإمامة، أي أمور السياسة والحكم، من فروع الاعتقاد وظنيات الشرع، لا من أصول الاعتقاد وأركان الدين. ما يؤكد عليه عموم أهل السنة وتختتم به كتب الكلام هو أن الإمامة من ضرورات العيش المشترك لا مقومات الشرع، وهي من الأمور التقديرية العرفية والمدار فيها هو حفظ السلم الأهلي، ومراعاة العدل والمصلحة العمومية لا تجسيد الدين. إن هذا التصور الكلامي يتعارض كلياً مع الفكر الصحوي وتيار الإسلام السياسي عموماً، الذي يعتبر الدولة محور الدين ومرتكز «الهوية الإسلامية»، وهي الأطروحة التي أفضت إلى تكفير الحكام والخروج على الدول والمجتمعات.

&

&