قبل 25 عاما، عقدت دولة جنوب إفريقيا أول انتخابات حرة بعد نهاية نظام الفصل العنصري. وفاز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بأغلبية ساحقة، وبدأ زعيمه نيلسون مانديلا يعيد ربط أوصال البلاد بوصفه رئيسا جديدا لها. ومع إتمام جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري لانتخاباتها الديمقراطية السادسة، ينبغي لنا أن نتذكر إرث مانديلا الهائل.
في عام 1994، كتب مارك سوزمان كبير المسؤولين عن الاستراتيجية في مؤسسة بيل وميليندا جيتس: كنت صحافيا شابا أعمل في صحيفة "فاينانشيال تايمز"، وكنت مكلفا بمتابعة كلارنس ماكويتو، زعيم حزب مؤتمر عموم الأفارقة اليساري المتطرف، وهو يدلي بصوته. لم يكن ماكويتو مهتما بالمصالحة. أثناء حكم نظام الفصل العنصري، كان الجناح العسكري لحزب مؤتمر عموم الأفارقة يتبنى شعار "رصاصة لكل مستوطن"، وكان أعضاؤه يدعون إلى إلقاء "كل أصحاب البشرة البيضاء في البحر".
في غياب أي وسيلة جديرة بالثقة لاستطلاع آراء السود في جنوب إفريقيا، توقع بعض المراقبين أن يتمكن ماكويتو وحزبه من تأمين ما قد يصل إلى ربع الأصوات. وأعرب كثيرون عن خشيتهم أن تؤدي مثل هذه النتيجة إلى اندلاع أعمال عنف، وفي البداية بدا الأمر وكأن الحال ستؤول حتما إلى ذلك.
في صباح اليوم الذي أدلى فيه ماكيوتو بصوته، فجر متطرف أبيض ساخط قنبلة في مطار جوهانسبرج. كانت الحرب في يوغوسلافيا السابقة لا تزال مستعرة، وكانت الإبادة الجماعية في رواندا في أسابيعها الأولى، وسارعت وسائل الإعلام الدولية إلى تغطية ما توقعت أن تكون قصة وحشية أخرى: الحرب الأهلية الوشيكة في جنوب إفريقيا بين المتطرفين من ذوي البشرة البيضاء على اليمين والمتطرفين السود على اليسار.


بطبيعة الحال، لم يحدث ذلك. وبعد أربع سنوات فقط من إطلاق سراحه من السجن ــ بعد أن قضى هناك سبعة وعشرين عاما بعد إدانته بالتآمر لإسقاط الدولة ــ دفع بمانديلا إلى السلطة بأكثر من 60 في المائة من الأصوات، في حين حصل ماكويتو وحزب مؤتمر عموم الأفارقة على 1 في المائة بالكاد. لكن هذا لا يعني أن النتيجة ــ نتيجة التصويت أو رئاسة مانديلا ــ كانت حتمية.
يبدو التاريخ دائما وكأنه قدر محتم بمجرد جفاف الحبر الذي يكتب به. واليوم، من الصعب تخيل عالم لم يتمكن فيه مانديلا من انتشال جنوب إفريقيا من خراب الفصل العنصري وإرساء الأساس لدولة موحدة. لكن جنوب إفريقيا في عام 1994 كانت مرتعا للتوترات والانقسامات، التي بدا التغلب على أكثرها مستعصيا.
في حقيقة الأمر، في الأسابيع التي سبقت التصويت، قاد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية السابق فريقا من الشخصيات العالمية البارزة لمحاولة التوسط في النزاع الدائر بين عديد من الأحزاب السياسية في البلاد وحزب إنكاتا الحر الذي هيمنت عليه قبيلة الزولو، الذي كان ملتزما بمقاطعة الانتخابات. وكان كيسنجر قد غادر غرفته في فندق جوهانسبرج بالكاد عندما أعلن عن إيقاف محاولاته. قال كيسنجر: "الوساطة لم تبدأ قط، أي أن الوساطة لم تفشل".
في تلك اللحظة، بدا الأمر وكأن الفشل حتمي بالفعل، ولعله كان حتميا لولا مانديلا. فقبل أيام من بداية التصويت، ساعد مانديلا في إقناع حزب إنكاتا بالعدول عن المقاطعة. وكان هذا أمرا بالغ الأهمية لترسيخ فوزه، وبالتالي للتقدم الهائل الذي حققته جنوب إفريقيا منذ ذلك الحين.
بعد مرور 25 عاما على انتخابه، وما يقرب من 101 عام على مولده، نتذكر مانديلا كرجل دولة، ومحرر، ورمز، وقديس علماني. ولكن قبل أن يكون أيا من هذه الأشياء، كان مانديلا سياسيا، وبارعا في بناء التحالفات واجتذاب المعارضين السياسيين.
بعد سنوات، شاهدت فيلم "لينكولن" للمخرج ستيفن سبيلبرج عام 2012، الذي صور رئيس الولايات المتحدة السادس عشر كحيوان سياسي. كانت مهمة لينكولن ضخمة ونبيلة ــ تجريم الاسترقاق في دستور الولايات المتحدة ــ لكنه كان على استعداد أيضا للتصرف بمكر واحتيال، بل وحتى بشكل مراوغ، لإنجاز مهمته. وعندما نزلت "تترات" ختام الفيلم، قلت لنفسي: "هكذا كان مانديلا أيضا".
مثله كمثل لينكولن، كان مانديلا يؤمن بأن التاريخ لا يرغم الناس دوما على تحويل مسارهم؛ بل إن الناس هم القادرون على تحويل مسار التاريخ. وقد أثبت ذلك.
الواقع أن مانديلا هذا ــ أكثر من مانديلا القديس ــ هو الذي أفضل أن أتذكره. فإذا كان الأمر يستلزم ظهور قديس لحل مشكلة تبدو مستعصية مثل مشكلة الفصل العنصري، فأي فرصة قد تتبقى لنا نحن الفانون إذا؟ ولكن إذا كان بوسع رجل مناضل، موفور النشاط، وساحر متفائل، أن يحدث الفارق، فإن هذا يعني أن أي شخص لديه الفرصة للمساعدة على إيجاد عالم أفضل.


كانت هذه المشاعر قوة دافعة في حياتي المهنية، يضيف سوزمان، وبعد فترة ليست طويلة من تنحي مانديلا عن الرئاسة في عام 1999 ــ وكنت آنذاك صحافيا أقيم في واشنطن العاصمة ــ كتبت مقالا في صحيفة "فاينانشيال تايمز" سلطت فيه الضوء على تصور الأمم المتحدة على أنها منظمة جامدة متصلبة. وقد لفت المقال انتباه رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الجديد، الذي وافق على أن المنظمة تحتاج إلى التغيير وطلب مني المساعدة.
عندما قبلت المنصب في الأمم المتحدة، لم أكن أتوقع البقاء هناك لفترة طويلة؛ فتقدمت بطلب لإجازة لعام واحد فقط من وظيفتي في الصحافة. ولكن بعد مرور ثمانية عشر عاما، ما زلت أعمل في مجال التنمية العالمية، والآن في مؤسسة بل وميليندا جيتس. وعندما أستعرض اليوم ما حدث منذ ذلك الحين، أرى بوضوح أن هذا التغيير المهني كان مدفوعا، إلى حد كبير، بما كان مانديلا ليحثني على فعله. قال مانديلا: "إن الفقر، مثله في ذلك كمثل العبودية والفصل العنصري، ليس طبيعيا. ويمكن التغلب عليه واستئصاله من خلال أفعال البشر". على مدار السنوات الـ20 الأخيرة، رأينا هذا يحدث أمام أعيننا؛ فقد انخفض معدل الفقر في العالم بمقدار ثلاثة أرباع، وهو ما يرجع بشكل كبير إلى التنمية الاقتصادية السريعة في آسيا. وفي إفريقيا، على الرغم من تفاوت التقدم هناك، هبطت معدلات الفقر في بعض الدول ــ مثل إثيوبيا، وتنزانيا، وغانا، ورواندا ــ بمقدار الثلثين أو أكثر. وكان انخفاض معدلات الوفاة بين الرضع والأطفال وتحسن مستويات التعليم أكثر انتشارا.


أما عن جنوب إفريقيا، فهي لا تزال تصارع إرث الفصل العنصري؛ ولم يكن ظهور الطبقة المتوسطة من ذوي البشرة السوداء كافيا للتعويض عن أشكال التفاوت العنصري المستمرة في الدخل، والتعليم، والصحة. ومع ذلك، فإن أداء البلاد، بكل المقاييس تقريبا، أفضل مما كان عليه قبل 25 عاما. وكان أحدث دليل على هذا التقدم الانتخابات التي انتهت للتو: فلم يتوقع أحد حدوث اضطرابات كبيرة، بصرف النظر عن النتيجة.
كان مانديلا على حق، فالمعاناة يمكن التغلب عليها من خلال أفعال البشر. حتى أن شخصا واحدا ربما يكون قادرا على تحويل مسار التاريخ.

&