&محمد طيفوري&&

بدأ إيقاع قرع طبول الحرب يرفع منذ أيام بين واشنطن وطهران، بعد تعدد جبهات التصعيد الأمريكي ضد سياسات إيران في المنطقة. وكانت آخر تلك الضغوط تصنيف الحرس الثوري الإيراني، بداية شهر أبريل (نيسان) الماضي، في قائمة التنظيمات الإرهابية لدى أمريكا؛ وهي المرة الأولى في التاريخ التي تصنف فيها هيئة عسكرية رسمية تابعة لدولة بعينها تنظيما إرهابيا. ثم إلغاء الإعفاءات التي كانت منحتها للدول المستوردة للنفط الإيراني، وفرض عقوبات على قطاع المعادن "الحديد والصلب والألمنيوم والنحاس". وأخيرا إرسال حاملة الطائرات لنكولن إلى المنطقة؛ وعلى وجه السرعة، لردع إيران عن القيام بأي عمل قد يستهدف المصالح الأمريكية.
لقد فوجئت إيران بحجم العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، التي أخذت منحى تصاعديا حزمة تلو الأخرى. كما أن الآمال الإيرانية التي كانت معلقة على تأسيس الدول الأوروبية لنظام مستقل للتجارة مع إيران، بعرض توفير مناعة وأن جزئية من العقوبات الأمريكية، كانت مبالغا فيها. وفي المقابل، تراجع التبادل التجاري الإيراني مع ألمانيا، شريك إيران التجاري الأوروبي الرئيس، بصورة واضحة في الفترة الأخيرة. أما في بلدان آسيا، فقد بدأت الهند، أحد المستوردين الكبار للنفط الإيراني، في البحث عن مصادر نفط بديلة. كما أنه ليس من المتوقع أن تستطيع الشركات الصينية والتركية مقاومة نظام العقوبات طويلا.
أدت هذه الإجراءات التصعيدية إلى تزايد الضغط على النظام الإيراني، وتضييق الخناق عليه بشكل لا نظير له، حتى أضحت تحركاته وردود أفعاله أشبه ما تكون بالدولة المارقة. ففي غمرة هذه المشكلات المتلاحقة التي يفترض على نظام سياسي عاقل أن يواجهها بالجنوح للسلم والركون للتهدئة بحثا عن حلول، اختار القابضون على زمام الأمور في طهران أسلوب التصعيد، عن طريق التخريب والاعتداء على ممتلكات نفطية لدول مجاورة، ونقصد بالتحديد كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
هذه الخطوة ليس بالشيء الجديد بالنسبة للمراقبين والمتابعين للشأن الإيراني، أكثر من هذا كانت متوقعة لوجود أكثر من سبب يستدعي القيام بها. فمن جهة، افتعال صراع عن طريق فتح جبهة خارجية، سيضمن للمرشد ورجاله الحصول على بعض التأييد الشعبي، من جانب شرائح من الشعب الإيراني، التي لا تزال مخدوعة بشعارات "الجمهورية الإسلامية". ومن جهة أخرى، سيوفر تبريرا مقنعا يمكن لطهران أن تتذرع به في مواجهة وكلائها المحليين في لبنان واليمن والعراق وسورية، بسبب شح السيولة وتراجع أشكال الدعم والتمويل الموجهة لهذه الأذرع، جراء العقوبات الاقتصادية الدولية.
إصرار النظام في إيران على نهج أسلوب التحرش هذا، والدفع بالتصعيد إلى أبعد مدى يمكن أن يصل إليه، يجد مبررا له في استبعاده احتمال دخول الولايات المتحدة في حرب ضده. وعلة أصحاب هذا الرأي تستند إلى أن الرئيس ترمب بنى شعبيته الانتخابية على إعادة الجنود الأمريكيين إلى وطنهم، ولن يكون من مصلحته خوض حرب برية أو جوية ستضطره إلى تعريض الجنود الأمريكيين في الدول المجاورة لخطر هجمات الوكلاء المحليين لإيران بها. ينسى أو يتناسى هؤلاء أن الإدارة الأمريكية منقسمة بشأن الملف الإيراني إلى تيارين، أحدهما بقيادة الرئيس ترمب الذي يرى أن حسن استغلال الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية على إيران، قد يؤدي إلى إرغامها على إعادة التفاوض حول برنامجها النووي، الذي عده سيئا ما دفعه إلى إلغائه سنة 2015. ما يعني ضرورة إثبات القدرة على إنجاز اتفاق أفضل من ذلك الذي أنجزه سلفه باراك أوباما، أو تحمل تبعات استئناف إيران برنامجها النووي. والآخر، يمثله كل من بولتون وبومبيو الراغبين في تحقيق استسلام إيراني كامل للشروط الأمريكية، ولو بالقوة والمواجهة العسكرية التي من شأنها تغيير النظام في طهران. ويستغلان في الدفع بهذه الطرح بعيدا شغور منصب وزير الدفاع في الإدارة الأمريكية، وضعف شخصية شاناهان القائم بأعمال وزير الدفاع، وقلة خبرته في الشؤون الخارجية. رغم تحفظ باقي الأطراف "المؤسسة العسكرية ومسؤولو الدفاع ومجلس الأمن القومي" على الخيار العسكري.
كما يتجاهل هؤلاء معطى صعوبة التوقع مع الإدارة الأمريكية الجديدة الذي صار محط إجماع جل الخبراء والمحللين، إذ لم يسبق أن بلغ العجز عن التوقع ما وصلته مع الإدارة الأمريكية الحالية، فكل يوم تصبح على حال. لكن ثمت أكثر من عامل يمكنه أن يدعم احتمالية وقوع اشتباك عسكري بين الطرفين، منها:&
أولا: سيطرة المحافظين على الإدارة الأمريكية، حتى وصفت من قبل البعض بأنها قيادة أشبه ما يكون بحكومة حرب، خصوصا مع تسليم وزير الخارجية بومبيو الكامل برؤية ترمب للسياسة الخارجية، ورحيل الوزراء والقيادات الأمنية والعسكرية التي كانت على خلافات مع الرئيس، ووجود دور فاعل للمحافظ المتشدد جون بولتون مستشارا للأمن القومي.
ثانيا: صعود قيادات خليجية أكثر حزما وصرامة مع العبث الإيراني بالأمن الإقليمي؛ وهو ما بدا في التصدي المباشر في اليمن بواسطة عاصفة الحزم. وهي قيادات لها تأثير كبير في الرئيس دونالد ترمب، ما قد يدفعه لتبني خيار الحرب أكثر من أي وقت مضى.
ثالثا: إلغاء ترمب للاتفاق النووي مع إيران من طرف واحد، وهو الاتفاق الذي كان يمثل عامل تهدئة، وكان من الممكن أن يسهم في "تأهيل" إيران، ودفعها لسياسات أقل تصادما مع الغرب ومع جيرانها من دول الإقليم، ما يفرض عليه تقديم بديل آخر؛ إما بشكل دبلوماسي أو باعتماد القوة، قبل نهاية ولايته الرئاسية.
يشير التصعيد الأمريكي ضد إيران إلى أن أهداف إدارة ترمب تتجاوز الملف النووي. فمستوى العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على إيران لم تصل إليه أية إدارة سابقة، ولا حتى عقب احتجاز الرهائن الأمريكيين في سنوات الجمهورية الإسلامية الأولى، ومؤشرات استعداد واشنطن للتعامل بالمثل مع أي استفزاز إيراني عسكري، لم يعد ثمة مجال لتجاهله.&
باختصار، إن الدعوة الأمريكية إلى تفاوض جديد حول الملف النووي، تتجاوز حدود هذا الأخير. فالتفاوض الذي يريده الأمريكيون مشروط بأن تنهي إيران دعمها للإرهاب، وأن يقوم النظام في طهران بتغيير إيجابي في طرق تعامله مع الشعب الإيراني.&
بمعنى، أن إدارة ترمب تتبع سياسة مختلفة كلية تجاه ملف إيران النووي عن تلك التي اتبعتها إدارة باراك أوباما. ففي حين فصل الرئيس السابق بشكل واضح بين الملف النووي وسائر ملفات الخلاف الأخرى مع إيران، تنتهج إدارة ترمب سياسة الحزمة الكاملة: الملف النووي والنفوذ الإيراني الإقليمي والسياسات الإيرانية المناهضة للمصالح الأمريكية في الإقليم.