&محمد سيد رصاص&

يمكن تلخيص استقطابات السوريين، من خلال أصداء رحيل الدكتور الطيب تيزيني الذي توفي يوم الجمعة 17 أيار (مايو) الجاري: استنكر إسلاميون، ومنهم قادة في المعارضة، الترحم عليه باعتباره "علمانياً وملحداً"، فيما هاجمه موالون للسلطة على صفحات التواصل الاجتماعي واعتبروه "خائناً"، لأنه كان صاحب موقف معارض في فترة ما بعد الأزمة السورية التي بدأت في 18 آذار (مارس) 2011، كما استذكر وتبنى كثيرون، وبعضهم كان متطرفاً في معارضته وينادي بإسقاط النظام ويؤيد السلاح المعارض، مواقف الدكتور تيزيني التي دعت في صيف العام 2011 إلى "حرمة الدم السوري على السلطة والمعارضة... وحرمة السلاح على السلطة والمعارضة"، وإلى تسوية سياسية مبنية على حوار سوري – سوري، قبل أن تتحول الأزمة السورية إلى أزمة يتحكم بمساراتها الخارج الدولي والإقليمي. قال الدكتور تيزيني آنذاك إن "هناك دائرة مغلقة حول السوريين، إن لم يفتحها الداخل لكسر المأزق فسيدخل منها الخارج". يلفت النظر أيضاً أن الكثيرين ممن كانوا يهاجمونه في فترة "ربيع دمشق" (أيلول 2000 - شباط 2001) ويتهمونه بالانحياز للسلطة في العهد الجديد، بسبب وقوفه ضد فكرة "المجتمع المدني" كعنوان وشعار للعمل المعارض، مفضلاً عليها عناوين "الديموقراطية" و"تفكيك الدولة الأمنية"، هؤلاء كالوا له الكثير من الرثاء على الأرجح من خلال نظارة الأعوام 2011 و2019 وليس من خلال سيرته السياسية العامة.


ظهر الدكتور الطيب تيزيني إشكالياً في مماته، بسبب السياسة، فيما لم يكن شخصاً منخرطاً في السياسة المباشرة والعملية، بسبب العنوان الرئيس الذي عرف به شخصه كأستاذ للفلسفة في "جامعة دمشق"، وصاحب مؤلفات في الفلسفة والفكر.

ربما تكون مواقفه أثناء فترة الأزمة السورية أسهمت في بروز جانبه السياسي، أو تغليبه على جانبه الفلسفي، أو يمكن أن يكون السبب في أن الموقف السياسي عند السوريين أصبح هو النظارة الوحيدة التي ينظرون من خلالها إلى بعضهم البعض، ضمن تخومي (موالاة - معارضة). وما يلفت النظر هنا، أن يكون شخصاً مثل الدكتور تيزيني، نادى بخط ثالث، ولو من موقع المعارضة هو خط التسوية بين السلطة والمعارضة كطريق لحل الأزمة، واقعاً كضحية بين فكي حدي هذه الثنائية: موالاة - معارضة.

يمكن لحياة الدكتور الطيب تيزيني أن تبرز ذلك، حيث البداية سياسية مباشرة، ثم تدريس الفلسفة في الجامعة، قبل أن يعود في نهاية حياته إلى السياسة. وحتى كتاباته في سنوات الأزمة السورية كان فيها انشغال بالسياسة وابتعاد عن الجانب الفلسفي.

انتسب الطيب تيزيني (مواليد 1934 في مدينة حمص) إلى "الحزب الشيوعي السوري" أثناء دراسته الفلسفة في "جامعة دمشق". وعندما بدأت حملة الاعتقالات في "دولة الوحدة" السورية - المصرية يوم رأس السنة من العام 1959 مستهدفة الحزبين الشيوعيين السوري والمصري، لجأ الطيب إلى بيروت، حيث أقام سنة كاملة قبل أن يوفده "الحزب الشيوعي" إلى ألمانية الشرقية في عام 1960لإكمال دراسة الفلسفة ونيل الماجستير والدكتوراه. وهو نال شهادة الدكتوراه عن أطروحته: "تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة" في عام1967. وعندما عاد إلى دمشق وقدم طلباً من أجل التدريس في قسم الفلسفة في كلية الآداب في "جامعة دمشق" للعام الدراسي 1969 – 1970، جوبه باشتراط قبوله بأن يترك "الحزب الشيوعي" وينتسب إلى "حزب البعث". قبل الدكتور الطيب تيزيني هذا الشرط، وأصبح بعثياً، فيما رفض ذلك رفيقه في "الحزب الشيوعي" العائد معه حاملاً الدكتوراه في الفلسفة أيضاً الدكتور نايف بلوز.

وإلى جانب التدريس في الجامعة، شارك الدكتور تيزيني بالكتابة في مجلة "الشبيبة"، التي كان يرأس تحريرها عقاب يحيى وهي تصدر عن منظمة "اتحاد شبيبة الثورة" التابعة لـ "حزب البعث"، وفي مجلة "الطليعة" التي كانت تصدر أسبوعياً عن "دار البعث". وبعد حركة 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، بقيادة وزير الدفاع السوري الفريق حافظ الأسد، التي أنهت نظام 23 شباط 1966، تابع الدكتور تيزيني نشاطه في "حزب البعث"، وكانت له أطروحات عن "اشتراكية عربية" تجمع بين شيء من الماركسية وشيء من الفكر القومي العربي. وخلال الأحداث السورية 1979-1982، التي حصل فيها صدام مسلح بين السلطة السورية و(جماعة "الإخوان المسلمين")، كان الدكتور تيزيني من المنظرين البارزين للسلطة السورية ضد "الإسلام السياسي".

لم يحصل أن أخذ الدكتور تيزيني مسافة من "حزب البعث" والسلطة السورية، سوى في صيف العام 2000، عندما طرح مقولة "تفكيك الدولة الأمنية". حينها، شكك الكثير من المعارضين في دوافعه، واعتبروا أطروحته المذكورة جزءاً من عملية التسويق للعهد الجديد في مرحلة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10حزيران (يونيو) 2000.

وقع الدكتور تيزيني على "بيان الـ 99" الذي نشر في الصحف اللبنانية في 27أيلول (سبتمبر)2000، وهو البيان الذي تضمن برنامجاً كاملاً: "إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، عفو عام عن السجناء السياسيين والملاحقين والمنفيين، إرساء دولة القانون"، إطلاق الحريات والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية، أولوية الاصلاح السياسي على الاصلاحات الإدارية والقانونية".

كان رأي الدكتور تيزيني، ومعه الدكتور عصام الزعيم، الذي أصبح في عام 2000 وزيراً للتخطيط، وهو الموظف في "البنك الدولي" والآتي أيضاً من خلفية شيوعية - ماركسية، بأن إصلاحاً يأتي من طرف السلطة، سيجنب سورية السيناريو الصربي، الذي أسقط فيه التدخل الخارجي، المترافق مع اضطراب داخلي، الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش في خريف العام 2000. ولو أن الدكتور الزعيم كان يرى الاقتداء بالنموذج الصيني الذي جرى فيه تسبيق الإصلاح الاقتصادي، فيما كان الدكتور تيزيني متقيداً بما وقع عليه في "بيان الـ 99" بتسبيق الإصلاح السياسي على أي إصلاح آخر.

عند نشوب أزمة العلاقات الأميركية - السورية في العام 2005، وما رافقها من تحقيق ديتليف ميليس في موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حصلت مراهنات كثيرة عند معارضين سوريين على سيناريو شبيه بالسيناريو العراقي. عندما أسقط التدخل العسكري الخارجي صدام حسين، كان الدكتور تيزيني ضد هذا التوجه وكان يرى الربط بين "الوطنية" و"الديموقراطية". وعند نشوب الأزمة السورية في عام 2011، لم يكن الدكتور تيزيني مع شعار "إسقاط النظام" وضد استعمال السلاح والعنف عند السلطة والمعارضة، وكان من الدعاة البارزين، ومن الأوائل الذين نادوا بحل تسوَوِي للأزمة السورية. مال الدكتور تيزيني في السنوات الأخيرة إلى الانكفاء عن الحياة العامة، وكانت نشاطاته مقتصرة على كتابات في الصحف مع مشاركات قليلة في ندوات أو في إلقاء محاضرات في الخارج.

لم يغادر الراحل سورية، وكل من التقاه في السنتين الأخيرتين كان يشعر بمدى حزنه العميق. على الأرجح أنه أحس بمأساة "الخط الثالث" في سورية ما بعد درعا (18 آذار2011) ولمسها.

&