& عادل درويش

أهم تطور في موسم سياسي حافل بالمفاجآت كان عودة الثقة بالأمة البريطانية أثناء سباق مزدحم بمرشحين لزعامة حزب المحافظين، وبالتالي رئاسة حكومة المملكة المتحدة.
ابن مهاجر من باكستان، من أسرة مسلمة فقيرة اختير، باقتراع نواب حزب الحكومة في مجلس العموم، ضمن الستة الباقين (من أصل عشرة)، ليسكن داوننغ ستريت كأحد اثنين رفعا الروح المعنوية للمحافظين وللمصوتين بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
المفضل في استطلاعات الرأي، وزير الخارجية السابق وعمدة لندن الأسبق، بوريس جونسون، اشتهر بالتهريج والنكتة وروح الدعابة، ما دفع المعلقين إلى التطلع إلى وزير الداخلية، ساجد جويد، ابن سائق الأوتوبيس الباكستاني، وليس ابن الإنجليز الأشقر أزرق العينين خريج أرقى المدارس الخاصة وأكسفورد، لإعادة الوهج إلى شعلة السيدة الحديدية مارغريت ثاتشر (1925 - 2013)، ويعتبرها المؤرخون ثاني أفضل رئيس حكومة (1979 - 1990) منذ الحرب العالمية الثانية (الأفضل على الإطلاق في كل استطلاعات الرأي كان السير ونستون تشرشل 1874 - 1965).
في مؤتمره الصحافي، الأربعاء الماضي، قال جويد إن كل أقاربه ومعارفه غضبوا من انضمامه لشباب المحافظين نقيضاً للصورة النمطية بأن المهاجر الملون الذي يعاني من التفرقة العنصرية يكون مع العمال والأحزاب اليسارية بشعاراتها عن المساواة.
ومن الناحية العملية؟

حزب العمال منذ تأسيسه قبل مائة عام وفي كل حكوماته، بدءاً من فوزه الكاسح 1945 - 1951، (ثم حكومات 1964 - 1970، و1974 - 1979، ثم 1997 - 2010) كان كل زعمائه من الرجال البيض رغم «حنجورية» شعاراته عن التنوع العرقي والجنسي ودعم الحركة النسوية، بينما قياداته الحالية اليسارية الاشتراكية من الطبقات العليا وخريجي المدارس الخاصة وأكسفورد.
وعلى العكس، فزعماء حزب المحافظين ورؤساء حكوماته منذ القرن التاسع عشر كانوا من كل الطبقات، بينهم يهود وسيدتان، من الطبقة المتوسطة، ثاتشر ابنة البقال، وتريزا ماي ابنة القسيس، وجون ميجور وويليام هيغ من الأسر المتواضعة. والرجل الذي يرى الثاتشريون فيه إحياءً لروح المحافظين في طليعة قيادات الحزب العريق، هو ابن سائق أوتوبيس مسلم كافح لرعاية أسرة من ستة تسكن في شقة غرفتين. نجاحه يجسد فلسفة المحافظين، بإتاحة الفرصة للفرد، بصرف النظر عن خلفيته، أو جنسه، أو عرقه، لينجح كعصامي بتحسين وضعه الاجتماعي والاقتصادي بالعمل الجاد، ورفع دخله، والتحرك طبقياً إلى أعلى.

ومثله ناظم زهاوي الذي جاء مع والديه الكرديين صبياً هرباً من بطش صدام حسين، واجتهد وعرق ليصبح من المستثمرين المتوسطين، انتخب في ثلاثة برلمانات متعاقبة عن دائرة ستراتفورد، مسقط رأس وليم شكسبير (1564 - 1616)، ليصبح وزيراً لشؤون تعليم الأطفال في حكومة المحافظين.
فلسفة المحافظين الرأسمالية عمادها تقوية ودعم الفرد لتحقيق أحلامه، ومنحه الفرص لينمو من معدم إلى مليونير، بخلق المناخ السياسي والاقتصادي الملائمين بتقليص نفوذ الدولة وسيطرتها على شؤون الفرد، وتحديد دورها في مساعدة الاستثمار بتخفيض الضرائب على الأفراد، ومنح التسهيلات الضرائبية للمستثمر، وتخفيض سعر الفائدة، فالاقتراض مقابل الأصول الثابتة كان مصدر السيولة المالية لبدء الثورة الصناعية.
وهذا بالضبط ما كان وراء نجاح شخصيات كجويد وزهاوي ومئات من أبناء المهاجرين وأبناء الطبقات الفقيرة الذين أصبحوا من كبار المستثمرين، وكلهم في حزب المحافظين الذي يسعى إلى تذويب الفوارق الطبقية بدعم حرية الفرد لاختيار أسلوب المعيشة والمسكن وطريقة إنفاق ما يكسبه، وتعليم أولاده.
وبالعكس ينسحق الفرد في سياسة حزب العمال الاشتراكية، وترتفع الضرائب بالتوسع في الإنفاق على الخدمات، بينما يقل الناتج القومي بتأميم الاستثمارات، وتحديد الدخول، بمنع فرص الطبقات الفقيرة من الصعود. فملامح الصراع الطبقي ضرورية لنجاح «العمال» انتخابياً بكسب أصوات الحاقدين طبقياً على الناجحين اقتصادياً. توفير المساكن الشعبية الرخيصة، وتحديد الإيجار، بدلاً من شراء المنازل وغيرها من فوائد وخدمات متواضعة «تضمن» أن يصوت المحتاجون لـ«العمال» في كل انتخابات بأمل أن يحصلوا على قطعة أكبر من الكعكة.
إحصائيات تصنيف الشرائح الديموغرافية، حسب الدخول، تشير إلى ارتفاع نسبة الطبقات الفقيرة إلى ما بين الربع وأحياناً الثلث في مناطق الشمال وإمارة ويلز (ما بين 26 و29 في المائة) في نهاية فترات الحكومات العمالية، بينما تنخفض النسبة إلى قرب الخمس (ما بين 21 إلى 23 في المائة) في نهاية فترات الحكومات المحافظة التي ترث خزانة مفلسة وميزانية مثقلة بالديون من الحكومات العمالية التي تلجأ إلى الاقتراض، وتنخفض الاستثمارات في عهودها، لارتفاع سعر الفائدة بسبب سياسات التأميمات ورفع الضرائب.
ما يجرنا إلى ارتفاع شعبية جونسون بحصوله في الدور الأول لتصويت النواب على (114 صوتاً) أكثر من منافسيه من التيار الخروجي مجتمعين (99)، وقرب ثلاثة أضعاف ما حصل عليه وزير الخارجية جيرمي هنت (43)، المتساهل مع الاتحاد الأوروبي، استمراراً في خط رئيسة الحكومة الخارجة تريزا ماي.

كان جونسون أطلق مشروع برنامجه لزعامة الحزب بالمبادئ والخطوط الثاتشرية نفسها التي جسدتها رحلة ابن المهاجر الباكستاني. اقتصاديات حرية السوق، حماية حرية المواطن الفرد الذي يذوب ويضيع في زحمة المبادئ الاشتراكية وبيروقراطية الدولة الفيدرالية للاتحاد الأوروبي. وتوفير الحرية للفرد للتصرف بأمواله دون تحكم المؤسسات البيروقراطية في حياته. جونسون ذهب خطوة أبعد من جويد، وهي خفض النسبة الضريبية للشريحة العليا للأسر التي يتجاوز دخلها السنوي 50 ألف جنيه.
وارتفعت أصوات اليسارين والاشتراكيين بأنها انحياز للأثرياء على حساب ثلث المجتمع. لكن هذه الشريحة كانت مليوناً عند تحديد النسبة الضرائبية، وهم اليوم 13.7 في المائة أو 4 ملايين و200 ألف. ستوجه الخطوة أصواتهم نحو المحافظين. فانتخاب حكومة عمالية بزعامة الاشتراكي اليساري جيرمي كوربين ستكون كارثة على بريطانيا، وبالدور على المستثمرين العرب والقائمين على التجارة معها.

الأهم أن جويد وجونسون أعادا الثقة للمواطن البريطاني بالإيمان بنفسه، وأكدا أنهما سيصران على إعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي أو الخروج بلا اتفاق في حالة رفض بروكسل.
اختيار فريق جديد لزعامة الحزب من التيار الثاتشري سيكون أفضل للعرب، سواء كمستثمرين، أو سياسياً خصوصاً والمتاعب تعصف بالمنطقة، كالتهديدات الإيرانية المتزايدة في الخليج بحوادث تذكرنا بحرب الناقلات أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، والتي كلفت فيها حكومتا ثاتشر الثانية والثالثة، البحرية الملكية، بعملية دوريات أرميلا (1986 - 1988) لحماية الناقلات من هجمات الحرس الثوري الإيراني. وبالطبع دور ثاتشر التاريخي في التصدي لعدوان صدام حسين وتحرير الكويت.
وهو الدور الذي كان تقلص بغياب الروح الثاتشرية من حكومات لندن لعقدين كاملين.