& يوسف الديني

&

الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الآن في لحظة فاصلة من تاريخ منطقة الشرق الأوسط والخليج، لكن الإشكالية تبدأ ولا تنتهي من تقييم سياسات الإهمال لسلوك دولة ملالي طهران وأذرعها كـ«حزب الله» والحوثي والعشرات من الميليشيات العقائدية التي زرعتها كألغام لتهديد استقرار المنطقة تحت مرجعية «الحرس الثوري» المعبّر عن هويّة إيران الثورية.

جزء من أزمة المجتمع الدولي تكمن في التعامل مع إيران بمنطق الدولة بسبب ذرائعية إمدادات النفط؛ الأمر الذي تجاوز إيران إلى إسباغ صفة السياسة إلى أذرعها وميليشياتها كما نرى في أخطاء المؤسسات الدولية ومنها الأمم المتحدة والمؤسسات الصحافية الغربية المناوئة لترمب في التعامل مع الحوثيين بلغة الدبلوماسية المتحيّزة كأطراف نزاع لا ميليشيا انقلبت على الشرعية في اليمن، وجرفت البلد الذي يعاني منذ عقود من حالة «اللادولة» إلى دولة ميليشيا مهددة للأمن الدولي، لكنها أيضاً تقتل اليمنيين كما حدث في أول أيام العيد تجاه تعز، وتنهب المساعدات الإغاثية، وتحاول تكوين اقتصادات مستقلة وكوادر مجتمعية وقبلية تدين لها بالولاء.
سلوك إيران اليوم انتقل من شعار المقاومة إلى استراتيجية المساومة، وبدا ذلك واضحاً في استهدافها الأخير لأمن الخليج خصوصاً بعد زيارة رئيس الوزراء الياباني. سلوك المقاومة يمارسه المرشد وملاليه عبر شعارات العداء للغرب والولايات المتحدة لكسب التعاطف، بينما يتخصص «الحرس الثوري» في تدعيم المساومة عبر العمليات التخريبية والتلويح بقطع طرق إمداد الطاقة، إضافة إلى استخدام الحوثيين وبقية أذرعها للقيام بعمليات مكثفة عبر إرسال صواريخ وطائرات مسيّرة للتشغيب وحماية الملالي، وبأسلوب هواة بدائي لا مسؤول ما كان له أن يحقق أي أثر لولا عدم جدية المجتمع الدولي في قراءة ما يحدث في صورته الكليّة.

جزء من الصورة الكاملة أيضاً هو إهمال الإعلام الحربي لإيران وميليشياتها، وهو اليوم لا ينطلق من طهران أو صنعاء، وإنما من قناة «الجزيرة» القطرية التي تحولت إلى أداة طيّعة في تدعيم خرائب إيران، ضمن نفس الاستراتيجية إطلاق شعارات المقاومة والحريّات، واستراتيجية المساومة من خلال بث الأخبار المضللّة والبرامج التحريضية المباشرة، في محاولة لخلق فوضى إعلامية موازية لفوضى عمليات الاستهداف من قبل الميليشيا في محاولة ترحيل أزماتها التي تبدو أنها وجودية اليوم بعد تأثيرات المقاطعة، وهو ما يفسر السلوك المتهور والمتطابق بين إيران وأذرعها ووكلائها الجدد، وكان آخر تلك المضحكات المبكيات أن تستضيف القناة خبيراً عسكرياً بحسب زعمها للحوثيين يؤكد أن الميليشيا لديها اكتفاء في التسليح خصوصاً الصواريخ والطائرات، وأنها مع الوقت تفكر في تصدير أسلحتها لدول الخليج!
ما نراه من تصعيد قد لا يكون مقدمة للحرب خصوصاً مع تحولات في استراتيجية الإدارة الأميركية في التدخل والانتقال من الحرب المباشرة إلى استراتيجية الإرغام الأكثر تأثيراً من خلال حزم العقوبات، وتخيير دول العالم خصوصاً في أوروبا بين مصالحها مع الولايات المتحدة أو الالتفاف على الملف النووي، والعقوبات التي تدرك إيران قبل غيرها أنها جزء من البراغماتية الاقتصادية وليست دفاعاً عن سلوك طهران التي تخلت عن الحرب النفسية والشعارات المجانية إلى الاستهداف المباشر بهدف الوصول إلى تسوية سياسية لكن من بوابة التصعيد، والتفاوض من موقع القوة التخريبية التي لا تعكسها لا القدرات العسكرية ولا الاقتصادية، وإنما عبر توزيع الأدوار بينها وبين أذرعها ووكلائها في أكبر تحالف غير متجانس للخاسرين في المنطقة ما بعد «الربيع العربي».

تحالف الخاسرين ليس لديه اليوم بعد حالة الانكشاف أي أوراق تفاوضية أو ضغوط سياسية وإنما التلويح بالقدرة على الاستهداف على المستوى الأمني والتضليل على المستوى الإعلامي.
العدائية التي يمارسها حلف «الخاسرين» هي جزء من محاولات الضغط القصوى والانتقال من محاولة استهداف دول الخليج والمنطقة إلى استهداف دول العالم عبر إمدادات الطاقة ذات التأثيرات الكارثية في محاولة لاختبار عقلانية دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية التي لا تسعى للحرب لكنها قادرة على الردع، وفي اختبار أكبر لمصداقية الولايات المتحدة والرئيس ترمب وجرّه إلى الحرب بدلاً عن استراتيجية الإرغام والعقوبات والمقاطعة التي ضاقت بها إيران وحلفاؤها.
الكرة اليوم في ملعب المجتمع الدولي والدول الأوروبية التي يتحتم عليها إعادة تقييم الحالة في المنطقة ما بعد استهداف مصالحها بشكل مباشر حتى لو تلكأت سابقاً وتحيّزت في لعب دور المراقب الموضوعي، فارتفاع منسوب التوتر على هذا النحو هو بداية إعلان حالة الانسداد على المستوى الدبلوماسي والتفاوضي، وبالتالي على مستوى المواقف الرخوة المبنية على البراغماتية المحضة.

سلوك إيران ببساطة يسعى إلى الدمج وشرعنة منطق الميليشيا مع منطق الدولة، ومزج المقاومة بالمساومة، والحال أن وضعية المنطقة اليوم تقول لنا بوضوح إن تأثيرات الميليشيات المدعومة من إيران يتجاوز كل ما عرفناه من إرهاب التنظيمات، فمنطق الميليشيا وإن كان منطقاً مضاداً للدولة، لكنه ليس مفهوماً فوقياً مفارقاً لها كما هي الحال مع التنظيمات الإرهابية التي تستثمر في آيديولوجيتها العقائدية أكثر من الميليشيات ذات الطموح السياسي الواقعي الذي يمكن أن يتذرع بالمدنية ويقتل شعبه ويرفع شعار الديمقراطية بشكل انتهازي لابتلاع الحالة السياسية وليس بشكل خلاصي كما هي حال تلك التنظيمات.