طلال صالح بنان

علم السياسة، بصفة عامة، يهتم بظاهرة السلطة.. وبصورة خاصة، ظاهرة الصراع عليها. مَنْ هم في سدة الحكم يريدون البقاء في السلطة.. وهناك في المجتمع مَنْ يتطلع لأن يكون في السلطة، أو على الأقل: المشاركة فيها. يمكن قياس التنمية السياسية، لأي مجتمع، بمدى كفاءة وفاعلية مؤسساته الرسمية وغير الرسمية، إدارة الصراع على السلطة، بغلبة آليات التداول السلمي للسلطة، على احتمالات الصراع العنيف حولها. عندما يفتقر المجتمع السياسي، لقيم وحركة التداول السلمي للسلطة، ينفلت الصراع على السلطة مِنْ عِقَالِهِ، معبراً عن عنفه الدموي، أحياناً.

مشكلة الكثير من دول العالم الثالث، خارج حزام الديمقراطية التقليدية، الذي يمتد مِنْ غرب وشمال غرب أوروبا عبر الأطلسي، مروراً بأمريكا الشمالية، وحتى غرب المحيط الهادي شمالاً في اليابان، أن مجتمعات دول الجنوب هذه، ثقافياً وتاريخياً لم تُطَوِّرَ قيم الديمقراطية، بعد. تاريخياً: ترزح معظم دول الجنوب لأنظمة حكم استبدادية، يصعب معها تحقيق تنمية سياسية فعالة، تقوم على قيم وحركة التداول السلمي للسلطة.

مشكلة مجتمعات الجنوب، هذه، أنها تريد أن تقفز على موروثات ثقافية واجتماعية متجذرة تاريخياً، لتبدأ من حيث ما انتهت إليه مجتمعات الشمال الديمقراطية، دون أن تمر بمرحلة المخاض العسير، حتى تنضج بها مقومات الخيار الديمقراطي، محلياً. فجأة تَجِدُ مجتمعات الجنوب، هذه، نفسها في خضم حلقة مفرغة من الصراع الحتمي على السلطة بين نخبها التقليدية الحاكمة والقاعدة العريضة من مجتمعاتها، التي وإن ازدهرت بها طبقة مثقفة تتطلع إلى السلطة أو على الأقل المشاركة فيها، لتصطدم بحواجز سميكة تتمترس خلفها نخب تقليديّة تكتسب شرعيتها من حقيقة واقع استحواذها على مقاليد السلطة، لا بالضرورةِ، على إرادة وقناعة القاعدة العريضة من النَّاس.

فجأة، وبدون مقدمات، وكما يحدث عند وقوع الزلازل وثوران البراكين وموجات «السونامي»، يخرج الناس كمن بُعثوا من القبور، في محاولة عنيفة لتغيير قواعد اللعبة.. وقلب معادلة التوازن التقليدية، بالمناداة فجأة وبدون مقدمات، بالديموقراطية. حراك اجتماعي فجائي لم تتوقعه أنظمة الحكم التقليدية، وربما لم تحسب احتمال وقوعه، يوماً. هنا يحدث الصدام الدموي، الذي يعكس، جانب قوى النخب التقليدية، التي بيدها أدوات الإكراه المادية وربما المعنوية، للدفاع عن مصالحها.. ومن الجانب الآخر، الحراك المجتمعي غير المنظم وربما غير المتوافق، الذي يرفع شعار «السلمية»، دون أن يكون لديه مقومات القوة الحقيقية لفرض إرادته.

شعار «السلمية»، الذي يردده «الثوار»، في مواجهة قوى الدولة العميقة القائمة، ليست كما يتصوره البعض، حراك سلبي يفتقر لمقومات القوّة، تماماً. بدايةً: قوى المعارضة، في أي محاولة متوقع احتمالات عنفها لتغيير النظام، هي في حقيقة الأمر تبدأ بتحدٍ جريء للنظام القائم. مهما يُقال عن «سلمية» أي حراك جماعي للثورة أو الانقلاب على النظام القائم، إنما هو في حقيقةِ الأمرِ استفزازٌ للنظام لدفْعِهِ استخدام العنف، دفاعاً عن مصالح نخبه التقليدية، في مواجهة ما يبدو من حشود جماهيرية «سلمية»، إلا أنها غير منظمة، أو حتى متوافقة، إلا على مواجهة النظام.

كما أن شعار «السلمية»، الذي يرفعه «الثوار» في ذروة حراكهم الاجتماعي طمعاً في الوصول إلى السلطة، لا يُعدُ - على إطلاقه - خياراً عملياً، من الناحية الاستراتيجية والتكتيكية. لا يمكن مواجهة القوة الجبارة الرادعة لنظام الدولة العميقة القائم، بنفس درجة العنف المتوفرة إمكاناتها للأخير. فَشِلَ الثوار في سوريا لأنهم حملوا السلاح، في مواجهة النظام القائم، وكانت النتيجة دمار سوريا. بينما نجحت مجتمعات أخرى في موجة ما يُسمى الربيع العربي، لأن قوى الثورة كانت من الحصافة والحكمة، بأن أصرت على «سلمية» تحركها، حتى ولو كان الثمن في النهاية، إفْشَالَ الثورةِ نفسِها.. وعودة قوى الثورة المضادة إلى الحكم، من جديد، ربما بصورة أقسى مما كان عليه الأمر قبل تَفَجرِ الثورة.

نفس الشيء يتكرر في السودان.. وربما يحدث في الجزائر.. ويتفاعل، بصورة أكثر عنفاً ودموية، في اليمن وليبيا، بما يهدد كيان الدولة نفسه. جميع المجتمعات، تقريباً، التي حدثت بها ثورات ما يسمى بالربيع العربي، عكست كفاءة وفاعلية وإصرار أنظمة الحكم القائمة على تجاوز الأزمة، مهما بلغت كلفة ذلك، مما يؤخر أي تطور طبيعي نحو استقرار سياسي كفء وفعال، يعكس تنمية سياسية حقيقية.

أي حراك جماهيري، لتغيير معادلة السُلطة القائمة، رافعاً فقط شعار «السلمية»، لا يمكن أن يخلو تماماً من العنف، الذي يقع معظمه على من شارك فيه، بدايةً. وإذا ما اختار «الحراك الثوري» طريق المقاومة المسلحة، في مواجهة قوى النظام القائم المادية والقانونية والإعلامية، وإذا أضفنا إليها تدخلات متغير الدعم الإقليمي والدولي، دون امتلاك إمكانات القدرة والإرادة على إحداث انتقال سريع وحاسم للسلطة، فإن النتيجة تكون كارثية، على الدولة نفسها، لا على مصير الثورة، فقط.

لا يمكن لأي نهج «ثوري» النجاح، برفع شعار «السلمية»، في مواجهة أدوات ردع «باطشة» لدى النظام القائم، المتسلح بإرادة ماضية في البقاء في السلطة، حتى ولو على حساب المساومة على مصير الكيان السياسي (الدولة). جميع الثورات الحديثة نجحت، لأنها استطاعت من اللحظة الأولى لاندلاعها، تجريد النظام القائم من أسنانه ومخالبه. هذا لن يتأتى، إلا بامتلاك «الثوار» لقدرات تنظيمية متقدمة، قادرة على إحداث انتقال سريع للسلطة، لا التعامل سلبياً مع موقف، متوقع عنف مآله من البداية، بدعوى «سلمية الحراك الثوري».

شعار «السلمية»، أحياناً، ليس بأقل عنفاً وخطورة، على الكيان السياسيِ (الدولة)، وليس فقط على مصير الثورة نفسها، من ردة فعل قوى الثورة المضادة العنيفة، للدولة العميقة. «السلمية» في حلبة الصراع على السلطة، في حاجة إلى أنياب ومخالب وقدرة تنظيمية فعالة لتغيير معادلة السلطة القائمة، بصورة سريعة وحاسمة، وإلا تنتهي كونها «انتكاسة» رجعية، لمسيرة التاريخ.