&زياد الدريس&

عندما كنت ممثلاً لبلادي لدى منظمة اليونسكو، وانطلقنا في العام ٢٠٠٨ لتسجيل مواقع سعودية في لائحة التراث العالمي لأول مرة، عبر مواقع: مدائن صالح، الدرعية القديمة، جدة التاريخية، الرسوم الصخرية بحائل، كنت أشعر بالفرح والألم معاً، الألم من أنه إذا كانت هذه هي الإجراءات الدولية المطولة للإدراج في اللائحة العالمية فمتى سنسجل المواقع التاريخية المكتظة في بلادي الممتدة على مساحة جزيرة العرب ذات الحضارات المتعاقبة والكنوز المدفونة؟! قال لي خبير يونسكي، وهو يهدئ قلقي، إن الهدف من التسجيل في اللائحة العالمية ليس هو التسجيل بذاته، بل التحفيز على رعاية التراث وصيانته على المستوى المحلي أولاً ثم الوطني ثم العالمي لاحقاً. تأكدت من صحة كلامه عندما بدأت تنهال عليّ طلبات هاتفية أو تويترية من أناس عاديين في بلدات صغيرة ونائية من بلادي يريدون مني، بكل عفوية وعاطفة، أن أسجل بلدتهم أو أحد آثارها في اليونسكو، وكنت أبذل جهدي كي لا يكون ردّي عليهم محبِطاً بل محفزاً لهم للاستمرار في هذه الدافعية الإيجابية لتحقيق هدفهم؛ محلياً أولاً ثم الانتقال إلى الدوائر الأوسع.


أتحدّث هنا وقد طالعت تقريراً موجزاً عبر قناة الإم بي سي عن نيّة أهالي مدينة حرمة بإقليم سدير ترميم البلدة التاريخية القديمة وتهيئتها لمن يرغب زيارتها من محبي زيارة الأماكن التاريخية وأبنيتها الطينية التراثية. خصوصاً وقد أنجبت هذه البلدة التي تجاوز عمرها 700 عام علماء وشعراء ورواداً، معروفين ليس على النطاق السعودي فقط بل وخارجه. ومدينة حرمة ليست وحدها التي تكتنز مثل هذا المجد التاريخي الذي يستحق التخليد والرعاية والترميم، فقد كانت الأسبقية في الرعاية والترميم لبلدة أوشيقر التي يصفها مؤرخو الأنساب بأنها (رحِم نجد)، إذ خرجت منها قبل مئات السنين معظم الأسر المنتشرة في حاضرة نجد الآن. ثم تمددت فكرة قيام الأهالي بترميم بلداتهم القديمة إلى مدن مجاورة كشقراء (عاصمة إقليم الوشم) والمجمعة (عاصمة إقليم سدير) والعودة والغاط، وإلى مدن أبعد لا تحضرني أسماؤها الآن. وهذه مبادرة أهلية تنسجم تماماً مع أحد أهداف رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي دعت إلى أهمية التحرك العاجل للحفاظ على تراث المملكة الوطني وصيانة آثارها من التشوه أو الاندثار.

هذا التسارع في العدوى الإيجابية بين أهالي القرى والبلدات القديمة في رعاية وترميم مباني وأطلال الآباء والأجداد، بمبادرة من المجتمع المحلي ودعم من الجهات المختصة، هو تشخيص دقيق لما بدأت به مقالتي عن أحد أهداف اليونسكو الأساسية من إنشاء لائحة التراث العالمي.

أحياناً، تحتاج للعودة إلى الخلف قليلاً كي تنطلق إلى الأمام بقوة.