& سليمان جودة

&

في عام 1946 كان الأستاذ حسين أحمد أمين في الرابعة عشرة من عمره، وكان على صداقة تربطه بزميل له في المدرسة اسمه خليفة، وكان الزميل متديناً بشكل لافت، ولم يكن حسين يعرف أن خليفة إخواني يُخفي إخوانيته، إلى أن جاءه يوماً يعرض عليه أن يزوره في بيتهم، للتعرف على الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين»، ومرشدها الأول!

القصة رواها حسين أمين في كتاب له صدر عام 2007 عن دار «العين» في القاهرة، وكان تحت هذا العنوان: شخصيات عرفتها!
وعندما قرأت ما صدر مؤخراً عن محكمة التمييز في الأردن، أعلى هيئة قضائية في البلاد، فيما يخص جماعة «الإخوان» الأردنية، تذكرت على الفور عبارة كان البنا قد طلب من حسين أمين، حين رآه في بيت زميله خليفة، أن ينقلها إلى أبيه أحمد أمين!
فما هو قرار المحكمة؟ وما هي عبارة البنا التي لما سمعها الأب أمين، هز رأسه مرتين أو ثلاثاً، على حد تعبير ابنه، وهو ينقل عنه في الكتاب، ولم يعلق بشيء؟!
أما قرار محكمة التمييز في الأردن، فهو عدم الاعتراف بجمعية «الإخوان» التي نشأت في عمان عام 2015، خلفاً قانونياً للجماعة هناك، وقد جاء القرار ليضع ختاماً لنزاع بين الجمعية التي نشأت بمباركة رسمية، وبين الجماعة التي نشأت عام 1946، وترى بالطبع أنها الأحق بتمثيل «الإخوان» في البلد. ومن المفارقات هنا، أن تكون السنة التي سمع فيها حسين أمين عبارته التي يرويها عن المرشد الأول، هي نفسها السنة التي خرجت فيها جماعة «إخوان» الأردن إلى النور!
ونقرأ في التفاصيل المنشورة أن النزاع من وجهة نظر الجماعة الإخوانية الأردنية، ليس فقط على الأحقية في تمثيل «الإخوان»، فهذا أمره يهون، ولكنه نزاع على ممتلكات وأموال تخصها، وقد ظلت هذه الأموال والممتلكات محل نزاع قضائي منذ نشأة الجمعية قبل أربع سنوات، فلما صدر حكم التمييز صباح الأربعاء قبل الماضي، 12 يونيو (حزيران)، بدا الأمر في عين الجماعة وكأن بضاعتها قد رُدت إليها!
هذا ما يفهمه الذين قرأوا توضيحاً صدر بعد الحكم مباشرة، عن حزب جبهة العمل الأردني الإسلامي، الذي يجري تصنيفه على أنه الذراع السياسية للجماعة، فالمحكمة المنعقدة ما كادت تنطق بالحكم، حتى كان الحزب قد سارع إلى إصدار التوضيح، الذي قال بما لا يقبل الجدل، إن الممتلكات والأموال المتنازع عليها قد تأكد أنها للجماعة لا للجمعية!
وقد كنت أتخيل أن ما يهم جماعة «الإخوان» في الأردن، مسألة أكبر من النزاع على الاسم، وعلى الأموال، وعلى الممتلكات، وعلى كل شيء من هذا النوع. كنت أتصور أن مضمون ما تقدمه للناس من أفكار، هو ما يهمها في الأساس، لا هذه الشكليات التي راحت تنشغل بها بمجرد صدور الحكم لصالحها، حتى ولو كانت الشكليات اسماً رناناً، وأموالاً، وممتلكات تُقدر بالكثير!
وهذا بالضبط ما يعيدنا إلى عبارة البنا، ففي ذلك الوقت كان هو قد كتب مقالة في جريدة جماعته، راح فيها يدعو المفكر أحمد أمين إلى الانضمام للجماعة، ثم راح يشير إلى أن انضماماً كهذا لو حدث، سيكتب لأمين مكاناً في الصف الأول من صفوف الجماعة الأم. ولكن المفكر الراحل لم يسمح لنفسه بالوقوع

تحت إغراء الدعوة، وكان تقديره أن جماعة «الإخوان» بدأت بداية طيبة محمودة، عندما كانت تتحرك في إطار الدين وحده، فلما خرجت عنه إلى السياسة انحرفت عن غرضها الأصلي، وهذا ما لم يكن يوافقها عليه، ولم يكن يرى ضرورة للخلط من جانبها بين الدين والسياسة!
عندما سمع البنا هذا المعنى عن قضية الدين والسياسة من أمين الابن، دخل معه في جدل حوله، وهو جدل يصفه التلميذ وقتها حسين أحمد أمين، بأنه كان جدلاً من طرف واحد؛ لأن المرشد الأول لم يكن يسمح له بإكمال جملة واحدة، فكان يقاطعه على الفور، وكذلك كان يفعل مع آخرين كانوا حاضرين في بيت الزميل خليفة، فلما وصل الجدل من وجهة نظره إلى نهايته، توجه بالحديث إلى حسين أمين، وقال فيما يشبه الأمر: «أبلغ أباك أن رفض الانضمام إلى جماعة (الإخوان)، هو إعراض عن الإسلام بأسره»!
إن مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، لم يكن يرى فارقاً بين المسلم، وبين الإسلام ذاته، أو بمعنى أدق لم يكن يرى أن «الإخوان» شيء، وأن الإسلام شيء آخر، إنهما في تقديره شيء واحد، وكيان متوحد، وجسد أوحد، ولا سبيل إلى الفصل بينهما!
وقد عانى الإسلام منذ اللحظة التي جرى فيها هذا الخلط بين مبادئ ومقاصد عليا تميزه، وبين سلوكيات يتحرك بها الذين يؤمنون به، ويحملون اسمه في خانة من خانات بطاقات الهوية. عانى هذا الدين من جراء ذلك، ولا يزال يعاني، رغم أنه ليس مسؤولاً عن تصرفات الذين ينتسبون إليه، ورغم أنه أبعد ما يكون عن كل تصرف نراه ثم ننكره وننكر كل صلة له بالدين!
ولا أعرف ما إذا كان القائمون على أمر جماعة «إخوان» الأردن، قد سمعوا برسالة البنا إلى أحمد أمين، أم لا! ولكن ما أعرفه أن مضمون تلك الرسالة خطير للغاية، فهو يؤسس لخلط لا يجوز، وهو الأجدى بالانشغال به، لا الأموال، ولا الممتلكات، التي دام النزاع حولها خمس سنين!

فالإنسان الذي يعيش العصر بيننا في مجتمعنا العربي، لا يهمه بالتأكيد أن يكون كيان «الإخوان» القانوني في العاصمة الأردنية اسمه جماعة أو جمعية، ولا يهمه إلى أي جهة منهما سوف تؤول الممتلكات والأموال في آخر النزاع، ولكن يهمه أن يعرف حقيقة موقفهم منه إذا رفض فكر الجماعة، ورفض بالتالي الانضمام إليها، جماعة كانوا أو جمعية!
بضاعة «الإخوان» الحقيقية في عمان وفي غير عمان، هي موقفهم ممن يختلفون معهم، ثم لا ينضمون إليهم، ولا يرون ما تراه جماعة البنا الأم، أو الجماعات التي تفرعت عنها وخرجت من باطنها. وليست البضاعة اسماً، ولا ممتلكات، ولا أموالاً يدور حولها النزاع ويطول في قاعات المحاكم!

&