& حازم صاغية

&

من بين مِحَن كثيرة يعيشها المشرق العربيّ، ثمّة محنة لا تحظى بما تستحقّه من اهتمام، بل لا تحظى بما تستحقّه من خوف. على المدى الأبعد، قد تكون هذه أكبر تلك المِحن: فهي عادمة لكلّ تغيير في المستقبل، إن لم تكن عادمة للمستقبل نفسه.
المقصود ذاك الانفصال بين أقلّيّة تصف نفسها بأنّها علمانيّة وأكثريّة تصف نفسها بأنّها ديمقراطيّة.
هنا سنصدّق الزعمين، أقلّه من باب المجادلة، فلا نحيط النعوت بالمزدوجات المعهودة.

والحال أنّ الانفصال المذكور من طينة الاستعصاء للسبب البسيط إيّاه: من دونهما معاً، الديمقراطيّة والعلمانيّة، ينسدّ باب الأمل كلّيّاً. فكيف حين يمنح العلمانيّون علمانيّتهم وظيفة مركزيّة هي اعتراض الديمقراطيّة - ديمقراطيّة الأكثريّة، فيما ينيط الديمقراطيّون بديمقراطيّتهم مهمّة أساسيّة هي اعتراض العلمانيّة - علمانيّة الأقليّات؟
ولا بأس بشيء من التشريح:
أقلّيّو العلمانيّة يعاملونها كما لو كانت تحوّلاً يحصل في الوعي والأفكار، بمعزل عن السياسة والحرّيّة وطبيعة السلطة والخريطة الاقتصاديّة. العلمانيّة، على هذا النحو، تغدو كالرؤيا التي تنفجر فينا حين ينتصر العقل والتمدّن في ذواتنا فنتعالى على انتماءات جزئيّة تنحطّ بإنساننا المعاصر إلى ما هو أدنى وأقلّ.
المشكلة الأخرى أنّ هذه التبشيريّة الطفليّة لم تردع معظم أصحابها عن دعم نظام استبدادي كالنظام السوريّ، وعن اكتشاف الفضائل الكامنة في القسوة المطلقة.
هي إذن طفليّة تنطوي على شرٍّ غالباً ما يُنفى عن الأطفال الموصوفين بالبراءة.
اجتماع الطفليّة والشرّيّة لا ينفصل عن نشأة هذا الموقف العلماني في بيئة تقاطعت تاريخيّاً مع أحزاب توتاليتاريّة، قوميّة ويساريّة، بيئة تقدّس «الزعيم» وتراهن على سَوق شعوبها إلى «التقدّم» بالعصا أو بالبرميل.

في المقابل، هناك أكثريّة تقول إنّها ديمقراطيّة، لكنّها لم تكترث مرّة بتطوير وعي وسلوك ديمقراطيين يتعدّيان الانتخابات، أي تسلّم الأكثريّة العدديّة السلطة تبعاً لكونها أكثريّة.
هذه المقاربة الديمقراطيّة، بل الأكثريّة، التي تخيف الأقلّيّات، تستحضر تاريخاً لا يُعتدّ به بين مِلل منطقتنا ونِحَلها. إنّها تعد بالانتقام أكثر مما تعد بالعدالة، وتبدو كارهة للمساواة فيما هي تسعى إليها.
بطبيعة الحال فإنّ أكثريي الديمقراطيّة هؤلاء ليسوا إخواناً مسلمين ولا من إرهابيي «النصرة» و«داعش». إلاّ أنّهم لا يبذلون الجهد اللازم لفصل أنفسهم عن أحزاب وتنظيمات تزعم النطق باسمهم، وعن إرهاب وظلاميّة يطرحان نفسيهما بديلاً أوحد عن «تقدّميّة» العلمانيين.
هذا الصمت عن التصنيف الظالم يصعب عزله عن ضعف الاكتراث بالآخر المسمّى «شريكاً في الوطن».
المطاف ينتهي بنا بالتالي إلى علماني يحتمي من شعبه بالأوتوقراطيّة، وديمقراطي يظنّ أنّه يحمي شعبه بالثيوقراطيّة. أوّلهما لأنّه لا يزن شيئاً في حسابات السلطة، تروح تستغرقه نرجسيّات افتتانٍ بالذات وعداء نخبوي للكثرة. ثانيهما تتعاظم لديه نزعة التدمير والكراهية لـ«الحياة الدنيا» وما فيها من اختلاط وتَمديُن ومثاقفة.
هكذا يلوح واحدهما بوصفه الأنا الضدّي للآخر ونقيضه المطلق: «خاصّة» مقابل «عامّة»، أو ربّما «أصحاب البرهان» و«أهل الظاهر» كما كان القدامى يقولون.
لكنّ المدهش أنّ تعاظُم هذا الانشطار الذي يستند أيضاً إلى مرتكزات سوسيولوجيّة، طائفيّة وإثنيّة، يُقابَل بإنكار يفوق المصارحة. يكفي أن نقارن الجهد الهائل الذي يُبذَل للبرهنة على انعدام الطائفيّة، أو هزال حضورها وعَرَضيّته، بالجهد الهزيل الذي يُبذَل لفهم هذا الواقع الطائفي أو الإثنيّ.
ومتى يحصل هذا الإنكار؟ الآن!
يضاف إلى اللوحة الانفجاريّة هذه تطوّران كبيران، يُحسَب عُمراهما بالعقود:

أمّا الأوّل فإن الحسّ الأقلّي تضاعفه الانفجارات الديموغرافيّة التي تعرفها منطقتنا من دون أن يصحبها، لدى أي من فريقي الانشطار، وعي مطابق وعصريّ. يتسبب هذا بمزيد من الخوف المشوب بقدر من العنصريّة، جاعلاً الاختلاف الأقلّي والطرح العلماني أشبه بعمل سرّي أو صلاة مذعورة.
وكي تكتمل المأساة، تتعاظم أعداد صغار السنّ الذين تشيخ مجتمعاتهم الطاردة لهم فيما تتضاءل قدرتها على توفير فرص العمل لتسخو، في المقابل، بفرص العنف.
وأمّا التطوّر الثاني، وهو أشدّ إلحاحاً ومباشرة، فإن أحداث السنوات الأخيرة تركت عنفاً ودماً وأحقاداً، ورفعت التناقض بين حاملي الشعارين التاريخيين العظيمين إلى سويّة القطيعة المبرمة.
واليوم ليس من المبالغة القول إنّ الخطّ الذي يمتدّ من قصف السوريين بأدوات الموت الكثيرة إلى معاملتهم العنصريّة في لبنان إنّما يبدّد كنزين ثمينين على أيدي مَن استحوذوا عليهما: كنز العلمانيّة وكنز حقوق الأقلّيّات ومساواتها.
أمّا التبديد الآخر الذي يضرب الديمقراطيّة فمصدره ترك الإسلاميين يصادرون الإسلام ويضعونه في مقابل كلّ ما هو مضيء وواعد في هذا العالم.
إنّ «داعش»، والحال هذه، رمز متخم بدلالات العيش في حروب أهليّة، دائمة ومفتوحة، بين شعوب «الشعب» الواحد.