&عبدالله بشارة&

&كنت على يقين بأننا في الكويت لا نحبذ صناعة التزوير، ليست لنا خبرة في فنونها ولم نتعرف على عناصر النجاح فيها، وكنت أتصور أن إشارات الصحافة إلى مواقع التزوير في الكويت وتنسبها إلى موظفين كويتيين، أمر مبالغ فيه، ومع زيادة الاهتمام بهذا الجانب غير المألوف بدأت أتمعن في حجم التزويرات التي تنقلها الصحافة للقراء، ومع مرور الوقت يزداد عدد الكشوف المزورة، وتتصاعد أعداد المزورين، وتختفي الستارة التي كانت تغطي، فتبرز الأسماء خليطاً من جنسيات تتآلف في عمليات الشر والخداع، وتطفو أسماء كويتية تقود الواجهة بعد عمليات تحضير يتولاها وافدون ومن كل الجنسيات، بلا استثناء، لهم دراية في إغلاق المنافذ التي قد تكشف الأسرار، ولهم خبرة في تجميل التزوير وتغطيته بمساحيق تبعد احتمالات الشكوك. تتحدث الصحف عن شهادات وهمية من درجات الدكتوراه إلى مستوى الطباعة والاستنساخ، وعن مدرسين وهميين ومهندسين محتالين وأطباء دخلاء، وعلماء كذابين وشعراء نهابين، سطو على نتاج غيرهم.. هذه المجموعة تتبادل أنواع الحيل والابتكار، فإذا قطعت الوزارة خطوط الكهرباء عن عمارة، عاد الخط لها بأسلوب الاختراع والسطو على مواقع الجيران

. ومما يضحك أن يتسلل الممنوعون من السفر بهوية مزورة وبتسهيلات من موظفين مهملين وعاجزين، وربما مرتشين، ومن أبرز الحملات تلك المتعلقة برجل أعمال يدخل ويخرج براً، وهو ممنوع من السفر وكل ذلك بعون من أحد رجالات الأمن، ولا ننسى حالات يضيع فيها القانون ويُدمَّر فيها الانضباط بسبب التضامن الأسري والقبلي، وتتراكم الحالات فتصبح عادية لا تثير.. ما هي الظروف التي جعلت الكويت تصل إلى هذا الانحدار؟! لا يمكن لأحد أن يحصر المسببات، فلا بد من الاجتهاد في تشخيص الحالة الكويتية المؤسفة لكي لا تتضخم مع احتمالات إسقاطاتها المؤذية على الأمن والاستقرار والانضباط في البلد. وهنا أدون بعض الملاحظات: أولا: لا يمكن لي أن أتجاهل روح اللامبالاة والشعور الانكساري الذي أفرزته عملية الغزو، ولا يمكن تجاهل تأثير هذا الواقع على همة الحماس في العمل البيروقراطي الوظيفي، فعملية الشفاء من جروح الغزو تحتاج إلى عناصر، منها مرور الزمن الكافي، على أن يرافقه وعي وطني جماعي بفهم الطبيعة البشرية بأن الأمم مثل الأفراد تمر بفصل مرير وبائس، لكنها تسمو عليه بالجهد والتفاني والتوثب الوطني بعد استيعاب الدرس.

الغزو يفجر غريزة النهب التي تحيِّد الحس الوطني وتذيبه في اندفاع للثأر من الغزو بعد ضياع الوطن.. هكذا تكشف كتب التاريخ.. ثانياً: الاسترخاء الوظيفي في دولة الرعاية الشاملة التي تعطي المواطن كل ما يحتاجه وتوفر له العمل، مما يسبب تواجد آلاف من الموظفين من دون حاجة تبرر وجودهم، غير أنهم موجودون في قناة وجهاز يؤمن لهم رواتب مثل قاطني البيوت الخيرية التي ترعاها المؤسسات الإنسانية، فمثل هذه الأجواء لا تصنع موظفاً متيقظاً يفحص ويراقب ويتساءل مع الشك. ثالثاً: تحول الفساد الذي طغى على الهموم اليومية للمواطن فيقرأ عن بطولات في التزوير وصفقات فساد، ويتساءل عن مصير مرتكبيه وحجم العقاب، كان الفساد حالة نادرة يرويها الناس بهمس وصارت نوادر وحكايات تشغل الصحافة وزوايا الدواوين وتجمعات الشباب والكبار، مع متطوعين عن آخر عجائب مسلسل الهروب وأبطاله مع صور لهم في استرخاء وأمن..

مثل هذه الأجواء لا تنبت المواطنة الصالحة إذا ما غاب العقاب وتلاشت همة الملاحقين. تتقوى غريزة التكسب السريع والثراء غير المشروع وتتسع الشهية للمال الحرام إذا وُجدت بيئة الفساد السهلة، لا سيما في ملفات الجنسية والهوية وإحصائيات السكان عبر نافذة الوساطات، التي تنجح في أجواء التسيب الإداري ووجود موظفين عاديين غير أكفاء للتعامل مع موضوعات حساسة، فعندما نتفحص التزوير في الجنسيات ونقرأ بأن حجم الرشوة أضعف الحس الوطني، نصل إلى واقع البقع الفاسدة التي يسهل فيها التزوير وتتوهج فيها الرشوة وينام الضمير ويتأذى الوطن، وتضعف بنيته الأمنية. رابعاً: عندما يكون القانون سيد الجميع، يطبق دون وساطات ودون مساومات ويتولد منه العقاب المناسب، يتردد الراشي والمرتشي، فالردع المعلن يخيف المغامرين، ويروع المرتشين، وينتشي المجتمع باليقين بأن لكل جريمة ثمن، عندها يتلاشى الفساد وتعود السمعة الطيبة للوطن. نحن نعرف أن الفساد آفة كل مجتمع، وأن الإجراءات مهما كانت قسوتها لا تقضي عليه، لكننا نعرف أيضاً أن مجتمع الكويت في أغلبيته الساحقة لا يعرف طرق الفساد ولم يتعرض لفنونه، وجاء مع الانفتاح الواسع الذي جلب معه خبرات على دراية بقواعد الفساد، لم تتردد في ممارسة حيلها، خصوصا في تزوير الجنسية الكويتية وشرائها بالمال المغري من ناس بلا ضمير. ومع كل ذلك اتُخذت اجراءات تمثلت في هيئة مكافحة الفساد كجهاز عمله تأكيد النزاهة في المجتمع الكويتي، الذي عليه أن يتقبل إجراءات النزاهة مهما كان ثمنها، والمستقبل يوحي بفصل أجمل من فصول الأمس. وأخيراً: استمرار الأرشيف الورقي في ملفات تنقلها الأيدي إلى أي مكان قد تضيع وقد تسرق وقد تحرق، وهناك حالات اختفت فيها الملفات بطرق سحرية بلا أثر، هذا الأمر يسهل مأمورية الفساد ويحرك شهية الفاسد ويصعِّب مهمة المحقق وينهي الشكوك، فلا دليل ولا أمل في خيط قد يفتح ثقباً في الجدار الصامت.. قرأت هذه الكلمات من مواطن غاضب، وهي توجز الحالة: «ادفع فلوس تخرج من البلاد وأنت مطلوب، وادفع فلوس تستخرج رخصة قيادة، وادفع فلوس تخرج من الإبعاد، وادفع فلوس تستخرج جنسية». هل نقبل أن يصل هذا الوطن البريء إلى هذه القناعات الغاضبة..؟ عبدالله بشارة

&